وفي ذلك طمس لما يحدث من تفاعل عام مع الأداء السياسي للسلطة بمختلف مكوناتها ،و ما يسجل في النشاط الاقتصادي و المجهود التنموي عموما .
لذلك لا يصح التوقف عند الحديث عن التوتر الاجتماعي ،على الاحتجاجات النقابية و الإضرابات عن العمل الّتي ينظمها و يضمنها القانون، بل يُفترض أن يشمل التعرّض إلى الاحتجاجات المتصلة بالأداء السياسي في مجالات التشغيل و التنمية الجهوية ، و حماية المقدرة الشرائية وتوفير وسائل تحقيق العدالة الجبائية و تحسين الخدمات وتطوير العمل الإداري و غيرها من التفاعلات المتصلة بمختلف الشؤون المحمولة على الدولة ومؤسّساتها .
هذه التفاعلات تبرز في الديمقراطيات المتأصلة أثناء الحملات الانتخابية باعتبارها تندرج في عملية محاسبة الأحزاب المساكة بالسلطة على ما التزمت به في وعودها الانتخابية تجاه ناخبيها خاصة ،و بصفة عامّة تجاه عموم المواطنين ، وتتمّ طبق ضوابط يحكمها القانون ملزمة لجميع الأحزاب المكونة للمجتمع السياسي النشيط، و تكون محط تقدير من منظمات المجتمع المدني .
و يعني هذا أنه بمجرّد اختيار الناخبين لممثليهم في مختلف المؤسّسات الماسكة بالسلطة ،ينصرف الجميع للعمل من أجل توفير متطلبات الإنماء و التطور الاقتصادي لتمكين الدولة من مجابهة مختلف الحاجيات و تحقيق التقدم و الازدهار.
و لكن ما نشهده في تونس ، أن رحى الاحتجاجات و الإعتصامات و استعمال آليات تعطيل العمل ، تدور على مدار الأيام و الأشهر ، و لا تتوقّف إلا في فترات هدنة تفرضها بعض المناسبات لفترة محدودة.
و مردّ ما يحصل لا يعود فقط إلى الإضرابات عن العمل التي بلغت سنة 2017حسب إحصائيات نشرتها وزارة الشؤون الاجتماعية ، 247 إضرابا، وإنّما كثيرا ما تتأجج الاحتجاجات و الإعتصامات وتعطيل العمل لأسباب متّصلة بقرارات أو ترتيبات اتخذتها مؤسسات الدولة ، مثل قانون المالية أو بحاجيات لم يقع توفيرها ، و مثل ذلك عدم توفير مواطن الشغل لـ620 ألف مواطن أو غلاء المعيشة.
و الملفت للنظر أن عدد الاحتجاجات بمختلف تصنيفاتها تجاوزت سنة 2017 ، 10 آلاف احتجاج حسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، و قد أدت العديد من الاعتصامات إلى تعطيل العمل و توقّفه و غلق بعض المؤسسات، فضلا عن حصول أعمال نهب و تخريب تعهّد بها القضاء .
و بقطع النظر عن مدى عفوية هذه الاحتجاجات، و نسبة توظيفها سياسيا من هذا الطرف أو ذاك، فإنها تبقى ظاهرة ملفتة لا يمكن لأحد نفيها ،و أصبحت غير عادية في ظرف حساس تمر به البلاد، و هو ما يقتضي التعمّق في درسها و اتخاذ ما يلزم لمعالجة أسبابها .
لا شك أن هناك أطرافا تنتعش من التوتر وتسعى لاستغلاله و من بينها قوى الإرهاب والتشدّد والتحجّر ، الّذين لا يراهنون فقط على تحيّن الفرص واستغلال الأوضاع الصعبة لفرض رؤيتهم و لتنفيذ مخططاتهم ، و إنّما يستهدفون إضعاف الدولة و استنزاف قدراتها لإنهاكها و جعلها عاجزة عن مزيد التنمية و الاستجابة لحاجيات الفئات الضعيفة والمتوسّطة الّتي ما فتئت تتسع .
كما لا يخفى أن التنافس السياسي و الرغبة الجامحة في اعتلاء السلطة و استبقاء النفوذ فيها ،يجعل الأطراف السياسية خارج السلطة وأحيانا حتى من داخلها ، يراهنون على مزيد التوتر لاستهداف العمل الحكومي كدعاية غير مباشرة للاستحقاقات الانتخابية البلدية و كذلك التشريعية والرئاسية لسنة 2019، و في ذلك تجاهل لمخاطر وتبعات انحسار متطلبات السلم الاجتماعي.
لذلك أفرز التنافس المعلن بين حزبي نداء تونس والنهضة على البلديات «نغمات» جديدة للتميز ولفت النظر سواء بدخول الحملة الانتخابية عبر المؤسسات الرسمية و كما نشهد ذلك من تدخلات نواب الشعب ، أو بواسطة تحركات شخصيات رسمية للعديد من الوزراء من نداء تونس ، أو من خلال بيانات و تصريحات في قالب تهديدات مبطّنة كما صدر ذلك عن زعيم حزب النهضة في ما اعتبره استهدافا من بعض الصحفيين و غيرهم لحزبه ، في سعي لطمأنة أتباعه و قواعد حزبه و ربّما امتصاص غضب بعضهم من غير المؤيدين له في تمشيه. كما شهدت المنابر الإعلامية مواقف زعيم حراك تونس الإرادة الرئيس السابق محمّد منصف المرزوقي ، الّذي يعتمد خطابا يحمل مضامين تحريضية ، دون تقدير لعواقب التفرقة الجهوية ،متجاهلا أنه كان بالأمس القريب على رأس الدولة و لم يحقق ما يلوم غيره على عدم تحقيقه.
إن للدعاية السياسية ضوابط ، و في مقدمتها عدم المس بمصلحة الدولة و مؤسّساتها ، كما أن للاحتجاج و التظاهر ضوابط و في مقدّمتها احترام القانون و متطلبات الاحتجاج السلمي ومؤسسات الدولة . هذه الدّولة الّتي عليها إنفاذ التشريعات الجاري بها العمل ، في كنف المساواة بين كل المواطنين أمامه ، و تحمّل مسؤولياتها بالقيام بدورها كاملا دون مهادنة أو تخاذل لإعلاء كلمة القانون و التوزيع العادل لمردود الثروات وحماية المقدرة الشرائية . و في نفس الوقت صون المنشآت العمومية و مصادر الثروة ، والوقوف ضد تعطيل العمل والإنتاج ، بالحوار و بفرض إحترام القانون و سيادة الدولة لضمان أمن البلاد و أمن غذاء مواطنيها ، لأن التوتّر وتعفّن المناخ الإجتماعي لا يخدم إلاّ مصلحة قوى الهيمنة والماسكين بدواليب المال و الإقتصاد والساعين لفرض إرادتهم بالتهريب و الإرهاب و الفساد ، بكل الوسائل الّتي تضمن مصالحهم ، فقط لا غير.