البلديات بين الأهواء والإفلاس السياسي

يقف المتابع للشأن العام في تونس على سمات سريعة التقلّب في المشهد السياسي ،غير متصلة بالأوضاع الإجتماعية والإقتصادية ،

و إنّما بسلوك و مواقف جانب هام من النخب السياسية الماسكة بالسلطة أو المتطلعة إليها .

هذه السمات المتقلّبة تكشف عن نوع من «الطفولية» السياسية، وعن عدم نضج هذه النخب الّتي يتميّز جانب منها بالانتهازية وباللّهفة في تسلق سلّم النفوذ بسرعة ،مع تغليب صارخ للمصالح الشخصية والحزبية، على المصلحة الوطنية الّتي بقيت صكّا بلا رصيد ، يعرض على عموم الشعب من عديد المسيطرين على الشأن العام.
من السمات البارزة تشرذم الأحزاب وتعدّدها دون تعدّد برامجها و رؤاها المستقبلية وقيامها على المخاتلات والحسابات الظرفية بلا تصوّرات إستراتيجية ، و تشكّل الأحلاف والمجموعات و «الجبهات» و سرعة انقسامها أو انحلالها ، و تعدّد الحكومات و تعدد تحويراتها، وتفكك الأحزاب مع ظاهرة «الذهاب و الإياب» في مختلف التشكيلات السياسية ، و «السياحة» بين الكتل البرلمانية، وإدعاء الاستقلالية عن الأحزاب ثم ثبوت عكس ذلك بسرعة ، والقول بالشيء و نقيضه في المواقف السياسية ، وبروز شخصيات بلا ماضي سياسي ولا عطاء أو إحياء نماذج ميّتة أو متزلّفة لاستعمالها كمفاتيح لإغلاق منافذ السلطة.. إلخ

في نطاق هذه الصورة العامّة تمّ التفكير في تشكيل رقعة تجمع الأطياف السياسية الأكثر تمثيلا لما بعد جانفي 2011 في محاولة لإخراج البلاد من الأزمة الّتي تردّت فيها، و إنجاز الأولويات السياسية و الاقتصادية العاجلة، وكانت وثيقة قرطاج أساسا لتشكيل ما سمي بحكومة الوحدة الوطنية و ممرّا لدخول غمار الانتخابات البلدية .
و لكن تطفو مجدّدا سمات ضيق أفق وهامش الفعل السياسي،ليحصل التباين في تقويم المسار و تجاوز المصاعب فتنفرط حبات عقد «الوحدة الوطنية» لتخرج أربعة أحزاب من وثيقة قرطاج وتضعف تبعا لذلك مساندة حكومة الشاهد، ويهتز الخطاب حول «التوافق» الثلاثي الجديد لضرورة التنافس الانتخابي للبلديات ، وتبرز دعوات جديدة لتكوين تحالفات جديدة لمجابهة متطلبات المشاركة في هذه الانتخابات، الّتي أصبحت «غولا» يؤرّق الجميع لما لها من تداعيات على استحقاقات 2019 وخاصّة حزبي نداء تونس والنهضة.

هذان الحزبان مقدمان على حلقة تنافس إنتخابي في بلديات ماي المقبل ستكون مقياسا لوضعية شعبيتهما على أرض الواقع ، لذلك أعلنا صراحة أنهما سيدخلان الإنتخابات منفردين ،مع التأكيد على بقاء توافقهما في حكومة «الوحدة الوطنية» و في العمل البرلماني، هذا ما لم يظهر توافق إنتخابي بينهما في الأيام القادمة حول كيفية المشاركة .
فإعتبار النهضة غريما إنتخابيا للنداء ليس أمرا محسوما ، لضرورة «التوافق» الذي يجمعهما و هاجس حساباتهما السياسية لبلوغ 2019 دون أن تحصل «خيبة» لأحدهما أو لهما معا ، كما حصل في الإنتخابات التشريعية الجزئية للتونسيين المقيمين بألمانيا. هذه الفرضية ممكنة في المنطق السياسي المجرّد وقد يكون تمّ التفكير فيها في السر.
وتجدر الإشارة في هذا المضمار أنه من المفارقات السياسية في تونس أن جل الأحزاب «الديمقراطية» تعتبر النهضة غريما إنتخابيا لها بإعتبارها تتبنى مشروعا مجتمعيا مغايرا لما تراه ،رغم القول بغير ذلك ، و هو معطى إستغلّه حزب نداء تونس أحسن إستغلال في انتخابات 2014 .
إذا سلمنا بأن البلديات مرتبطة بالشؤون المحلية للمواطنين التونسيين و ترتبط بشأن حياتهم العامّة أكثر من الشأن السياسي المتصل بالإنتخابات التشريعية والرئاسية، أو هكذا يسود الإعتقاد حسب التجربة التّي عاشتها تونس إلى اليوم.

وإذا سلمنا أن كل الأحزاب ستجد صعوبات في تشكيل قائماتها الانتخابية و لو بشكل متفاوت ،و ذلك لما تتطلبه هذه الإنتخابات من زاد بشري و موارد مادية، وبأن تواجد الأحزاب «الديمقراطية» الأكثر تمثيلية لا يتحقق في كل الدوائر البلدية ،و أن البلديات الكبرى منحصرة في مراكز الولايات و عددها 24 ولاية، فإنه حسب المنطق الحسابي المجرّد من كل الاعتبارات

السياسية، لا شيء يمنع ، أن تتشكل جبهة إنتخابية واسعة تضم كل الأحزاب الديمقراطية و الحداثية تشارك في الإنتخابات ضمن قائمات مشتركة يقع فيها تقاسم المراكز الكبرى و الصغرى بطريقة تضمن الفوز بالأغلبية المريحة في هذه الانتخابات، في تنافس صريح مع حزب النهضة والتشكيلات المقربّة منه و المرشحة للتحالف معه .

هذه الفرضية يمكن أن تقبل كما أشرنا إلى ذلك حسب الحسابات المجرّدة و لكنها شبه مستحيلة في ظل الجو السائد بين النخب التونسية كما قدمنا لذلك ،و لإنعدام الثقة. ولو أن التحالفات المعلنة إلى اليوم قد تغيّر الخارطة الإنتخابية إذا تمّ التوصل إلى إقناع الناخبين بالمشاركة في الإنتخابات ، فإنّ ذلك لا يمنع من القول أن المجتمع السياسي يعيش انفصاما غريبا في الشخصية ،لا تحكمه العقلانية ولا يسيّره الحس الوطني الكفيل بتغليبه على المصالح الضيقة والآنية ، لذلك ينتظر أن تكون الإنتخابات المقبلة محكومة بالأهواء و بتبعات إفلاس الفكر السياسي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115