بل كشفت أن «التآزر القطاعي» لا يتوقف على بعض المهن ، وإنّما يشمل أيضا رواّد قبة باردو. لذلك لا يتحقّق إجماع نواب الشعب إلاّ إذا تعلّق الأمر بشأن يهمهم بصفة مباشرة، فتتحد كل الكتل لتشكّل صوتا واحدا لا يعلو عليه أي صوت.
فظاهرة التغيّب المتكرّرة عن الجلسات العادية أو جلسات المساءلة، سواء تعلّق الأمر بموضوع هام أو عادي، هي علامة دالة على تفشي عقلية التهاون لدى عدد لا يستهان به من نواب الشعب. إذ لم تتجاوز نسبة الحضور في جلسة المساءلة الأخيرة 5 بالمائة من عدد النواب و هو عدد يكاد يتساوى مع عدد مستشاري الوزراء الّذين حضروا.
و التفكير في المعالجة بواسطة القانون توقف برفض التصويت على عدد من الضوابط و الإجراءات الّتي تلزم النائب بأداء مهامه الّتي ترشّح للقيام بها و الّتي تصبح بمجّرد أدائه اليمين لمباشرتها، مطالبا بالعمل على إنجازها، مقابل ما يتقاضاه من منحة شهرية و تعويض عن المصاريف المتعلّقة بأداء مهامه النيابية، مع ما يحوزه من مركز اعتباري في مجال العمل النيابي والسياسي.
ولو أن النظام الداخلي أعطى إمكانية اقتطاع أيام عمل للعضو المتغيّب في حالات محددّة و حسب شروط ، فقد إتضح أن هذا الإجراء غير كاف بالرغم من كونه وضع النائب في منزلة الموظف ، و الحال أن عمل النائب له خصوصية تتطلب من هذا الأخير أن يكون أكثر حرصا على إنجاز العمل. ولعلّه كان من الأجدى التنصيص على إمكانية سحب النيابة و تعويض النائب الّذي تغيّب دون مبرّر شرعي عن حضور عدد من الجلسات بغيره إستنادا إلى ترتيب نتائج الإنتخابات مع اتباع إجراءات شبيهة بإجراءات رفع الحصانة.
إن النظام السياسي الجديد ، المتميز بالمزج بين عدّة خصائص من النظامين البرلماني والرئاسي، وهو ما يجعله يوصف بالنظام «المعدّل» أو «الهجين» ما فتئ يكشف نواقصه، و زاد عدم انضباط النواب فيه، ورغبتهم الدائمة في الزيادة في إمتيازاتهم ،و التنقلات السريعة لعدد من النواب بين مختلف الكتل وما يحوم حول ذلك من أقاويل، يتطلب التفكير في عدّة تعديلات ، لرقابة العمل البرلماني وإصلاحه وتجنب عدم التوازن بين السلطات.
يُفترضُ أن يكون نواب الشعب الضمير الحي للشعب و القدوة في التفاني ونكران الذات، خاصّة وأنهم حملوا راية تمثيله وعكس طموحاته وآماله، و هم المشرعون لكل القوانين و الحريصون على أن تكون تشريعاتهم عادلة و متضمنة لقيم العدل والمساواة .ولكن ما تابعه العامة والخاصة سواء في المجلس التأسيسي أو في البرلمان الحالي، لم يعط صورة تليق بنخبة شعب يصبو إلى الدخول في مرحلة بناء الديمقراطية ودولة القانون والمؤسّسات .ففضلا على تدني مستوى الخطاب داخل البرلمان، وتشكيل لجان تلو اللّجان للتحقيق في العديد من المسائل، دون نتائج تُذكر، فإن غياب التعامل الجاد مع العمل البرلماني ما يزال محكوما بعقلية «أهواء» وتهاون في خدمة الصالح العام، لذلك تتراكم المشاريع، ويعالج بعضها بتسرّع، وتضيع الأولويات، وتمطّط الشؤون العاجلة لأجندات معلومة وغير معلومة، وتبقى فئات من الشعب تنظر في مرآة لا تعكس تطلعاتها و انتظاراتها، فإلى متى سيبقى الحال على ما هو عليه؟