إذن لم يكن تعطيل فتح ملف التمويل لنقص تشريعي وعائق لوجستي فقط، و إنّما كان خاصّة لغياب إرادة سياسية جادّة ، و لتقاعس قضائي على مستوى النيابة العمومية في متابعة المخالفات و التجاوزات ، خاصة و أن دائرة المحاسبات ودوائر رقابية أخرى أشارت في تقاريرها إلى عدّة تجاوزات ولكن بقت دون متابعة أو تتبع مّما جعل عدد الجمعيات يتضاعف عدّة مرّات إلى أن بلغ حسب الإحصائيات الأخيرة 20330 ، دون أن تخضع أغلبها لمقتضيات قانون الجمعيات.
لذلك تصبح بداية فتح باب التقصّي والتدقيق في تمويل الجمعيات ليس في صالح أطراف فاعلة في المجال السياسي أو الجمعياتي و هو ما يجعل إعلان حكومة الشاهد عن فتحه رغم تأخرّه خطوة تبقى في النهاية أفضل من أن يبقى الملف طي النسيان.
إن إثارة هذا الملف في نفس الفترة الّتي ظهرت فيها بوادر محاربة الفساد و الإنطباع الإيجابي الّذي تركه لدى الدوائر الدّاعمة للحوكمة والشفافية، هما اللّذان شجّعا على ملامسة ملف التمويل الفاسد للجمعيات.
وقد سبق أن إعتبرنا عند الحديث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، أنّه «من بين الأولويات الوطنية، مراجعة دقيقة لملفات كل الجمعيات الّتي تمّ إنشاؤها منذ 2011 والتثبت في مصادر تمويلها ونطاق نشاطها و شبكة علاقاتها ، و تعديل القوانين بالكيفية الّتي تضع حدّا لكل نشاط مستراب و غير شفّاف بالسرعة الّتي تستلزمها حماية المصلحة الوطنية والنظام العام» .(المغرب 9 جوان 2016). كما سبق إثارة الموضوع عند نشر تقرير دائرة المحاسبات حول تمويل الإنتخابات التشريعية والرئاسية، ولكن لم يقع تداول الحديث عن تتبع المخالفين، كما لم تقع مطالبة الجمعيات بإعلام الكتابة العامّة للحكومة بالتمويلات الأجنبية وتقديم تفاصيلها و إعلام العموم بها طبق ما يقتضيه المرسوم عدد 88 لسنة 2011 إلاّ هذا الأسبوع.
و رغم القيام بتعليق نشاط حوالي 164 جمعية من بينها 79 جمعية تحوم حولها شبهات الإرهاب، و صدور 26 حكما قضائيا في حل جمعيات ،15 منها تتعلّق بجوانب مالية و 11 تتعلّق بشبهات إرهابية (المغرب 14 جوان 2017) فإنه لم يقع إطلاع العموم على هذه الإجراءات ،و هو أمر يجب تداركه لأن إعلام العموم في حد ذاته، يدخل في إطار مكافحة الفساد ، لما في ذلك من تنبيه للمواطنين من حقيقة نشاط بعض الجمعيات وتحسّبا من تبعات إستغفال المواطنين .
و لكن المهم ليس في النبش السريع في الملفات لتصحيح بعض الوضعيات، و إنّما الأهم أن تكون المعالجة عميقة و حاسمة و غير متردّدة و لو تطلّب الأمر إدخال تعديلات على النصوص التشريعية كي يوضع الأمن الوطني أو القومي فوق كل إعتبار ،لأن التمويل الأجنبي غير المصرّح به وأي تمويل فاسد أو مشبوه، لا يمكن أن يكون دون مقابل و دون مخاطر . كما يجب ألاّ نقف في حدود التركيز على مصادر التمويل ، بل يجب مراقبة حقيقة الغرض الّذي بعثت بموجبه الجمعية الّتي كثيرا ما لا يتطابق تصنيفها مع التصنيفات القانونية المعمول بها وكثيرا ما تتعارض تسميتها مع القواسم المشتركة لعموم الشعب ، كتلك التسميات الّتي توحي بالتفرد بحماية الدين أو الأخلاق الحميدة أو صيانة المقدسات أو حماية القيم المشتركة السامية أو الدفاع عن منطقة معينة و غيرها ...
و نظرا لأن التعامل المباشر مع المواطن يقتضي التقيّد بما هو خارج عمّا هو من مشمولات الدولة ، فإن مستلزمات المكافحة الجادّة يجب ألا يعوّل فيها على التنابيه الإدارية و لفت النظر ، بل يجب التعامل مع التجاوزات بإجراء الأبحاث والتقصي و التحقيق قصد تجميع كل المعطيات على نشاط الجمعيات و مصادر تمويلها بتظافر جهود الجهات المعنية بالأمن و الشؤون الإجتماعية والخارجية. فالجمعيات سواء كانت ضاغطة أو داعمة لا تعوّض الدولة و لا تخرج عن نطاق رقابتها ، لذلك لا بد من معالجة ملف تمويل هذه الجمعيات و طبيعة أنشطتها بكل جدّية حتى يتحوّل الإنطباع الإيجابي العام بإتخاذ هذه الخطوة ، إلى التحمّس لتمش إستراتيجي طويل الأمد يحصّن مؤسّسات الدولة ويضمن أمن البلد.