للإضطلاع بمهمة الإشراف على مسار الإنتقال الديمقراطي تحت يافطة «الشرعية الثورية» الّتي تكاثرت شعاراتها و تمّ العمل على تضمين أغلب عناوينها بدستور 2014
بعد حوالي ثلاث سنوات لا نجد غير الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات الّتي تركزت بصورة دائمة و حاز أداء دورها رضاء مختلف الأوساط في الدّاخل و الخارج، و لكن ما تزال بقية الهيئات تسير بتعثر أو لم تر النور بعد .
وهذا التعثر يكشف أن المجتمع السياسي والمجتمع المدني ، لم يستوعبا دور الهيئات المستقلّة و لم يتشبّعا بالقيم الديمقراطية الّتي يؤسّس عليها العمل المستقل و المنظم داخل المنظومة العامّة للدولة .و الدليل على ذلك ما شهدناه في هيئة الحقيقة والكرامة و هيئة الإتصال السمعي البصري و ما عرفته أيضا الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات في الأيام الأخيرة .
فالهيئات المستقّلة ليست مجرّد «جمعيات» صغيرة تسيّر طبق الأهواء كما إعتبرها بعض الماسكين بإدارة هذه الهيئات، و ليست مراكز قوى تعارض السلطة القائمة أو «دويلات مصغّرة» تزاحم مؤسسّة الدولة ، و إنّما هي هيئات مستقلّة تضطلع بمهام خاصّة ضمن مؤسسات إدارة الدولة و تتعاون و تنسّق معها ، دون أن تكون تابعة للسلطة السياسية الماسكة بالحكم ، غير أنها تبقى خاضعة لضوابط و قوانين تحكمها .
والإشكال الكبير الّذي يطرح أن هذه الهيئات أُسندت لها مهام محورية في دولة القانون والمؤسّسات وكأنّ تونس إكتسبت مقوّمات الديمقراطية و تجذّرت فيها بمجرّد وضع دستور جديد يتضمّن كل المضامين الّتي تؤسّس لذلك. والحال أن الإنتخابات في كل المستويات و مجال الإعلام التعدّدي و النزيه و حريّة التعبير، وإحترام الحريات وحقوق الإنسان و تعزيزها ، و إستشراف التنمية المستدامة و حقوق الأجيال القادمة ومكافحة الفساد و إرساء الحوكمة الرشيدة ،ليست شعارات للإستهلاك ، أو مجالات للإرتقاء الإجتماعي أو الإستغلال السياسي .
فكل هذه المهام الّتي أُسندت للهيئات المستقلّة تشكّل ركائز بناء مجتمع جديد ، تستوجب تقدير المؤسّسات مهما كان نوعها و إحترامها و تطبيق مقررّاتها و الإذعان لأحكام القانون.و لكن ما شهدته التجربة التونسية كان بعيدا كل البعد عن إرساء هذه الركائز، و لم نسجل نجاحا إلاّ الهيئة العليا المستقلّة الّتي الإنتخابات الّتي ساهمت بفاعلية في الإنتقال من السلطة المؤقتة إلى إرساء الجمهورية الثانية ، و نأمل ألاّ يكون ما حصل مساعي خفية ترمي إلى تقويض هذا المكسب أو إدخاله في غمار تجاذب جديد يضربه في الصميم.
لقد أدى غياب إجراء إصلاح تشريعي عميق وتعطّل سن بعض القوانين الأساسية و تأخر إنشاء بعض المؤسسات كما حصل بالنسبة للمجلس الأعلى للقضاء و ما يحصل للمحكمة الدستورية ، أو هيئة التنمية المستدامة و حقوق الأجيال القادمة، إلى تعثر استكمال المنظومة الشاملة لإعادة هيكلة الدولة .
لذلك لم تخرج البلاد من مرحلة «التجريبية» بسبب النظام السياسي الّذي تمّ إختياره ،. هذا النظام الّذي سبق أن أكدنا أنه تحكمه آليات بطيئة جدّا ، لا تتلاءم مع أوضاع تونس ومتطلّبات النهوض السريع بإقتصادها و إنعاش ديمقراطيتها «الفتية».و أن بعض النخب السياسية التونسية أخطأت عندما سايرت خيار تقويض بعض مؤسسات الدولة وأدت هذه الاخطاء إلى فرقعة عدّة مقومات، و سمحت بتفكيك بعض الأنسجة الإجتماعية ومكّنت القوى المعادية لقيم الجمهورية والحداثة من التسرّب إلى مفاصل الدولة و الإستفادة من حالات التسّيب و الفوضى كي تتوصل بعض الكيانات إلى التشكّل لمجابهة الدولة و محاولة ضرب مقوّماتها»... (المغرب 3 أفريل 2016)
إن ما نتابعه اليوم هو تواصل المسير في طريق الخطأ و لا نرى مجهودا لإعادة التفكير لتخطّي معوقات «البناء الفوضوي» في هيكلة المؤسّسات والهيئات، بسبب السعي إلى ملاءمة عدّة أنمطة ومدارس و مرجعيات ، فاقدة للتناسق الّذي يعكس السمة البارزة للمجتمع التونسي.
إن ما حصل في بعض الهيئات الدستورية وغيرها ، يدعو إلى عدّة مراجعات،و إعادة ترتيب الأمور، بدل الإنصياع إلى الضغوط غير المبرّرة ، والنظر في إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة و إصلاحها دون أن تتخلّى عن دورها . فكما سبق أن أكدنا أن مقاومة الإرهاب لا تعالج بالندوات والمؤتمرات و الحملات التحسيسية فقط ، بل تعالج أساسا بمحاصرته والتوقي منه وضربه بنجاعة ، كذلك يكون الأمر لإرساء مقومات دولة القانون و المؤسسات وإضفاء النجاعة اللآزمة على عمل الهيئات المحدثة والتي ستحدث.
بدون ذلك لن نضمن إعلاما تعدّديا و نزيها لا تحكمه أغراض أطراف سياسية و لا يهمّش فيه الإعلام العمومي ،و لا نضمن إحترام الحريات وحقوق الإنسان و قيم العدالة والمساواة . ودون ذلك لا نرسم لتنمية مستدامة و حقوق الأجيال، ولا نمنع الفساد أو نضمن سبل مكافحته...