اليوم هنالك شبه إجماع على التشخيص لكل أزمات تونس المالية والاقتصادية ولكن لا وجود البتة لتوافق أدنى حول كيفية الخروج من هذا الزقاق ..
والخلافات ليست خاصة بتونس بل أمام كل أزمة مماثلة في العالم نجد صراع نظريات متناحرة : هل نبدأ بالتقشف وبالضغط على الإنفاق العمومي أم نبحث عن آليات دفع النمو الاقتصادي ليكون هو الحل في آخر المطاف..؟
ولكن مسؤولية الدولة ومسؤولية كل مجتمع ، كما هي مسؤولية كل عائلة ، هي توفير كل المعالجات الممكنة دون تحجّر مذهبي ودون إهمال الغايات الأساسية من وراء كل إصلاح..
قد تضطر بلاد إلى التضحية ، تماما كعائلة ما ، ولكن التضحية ليست هدفا في حدّ ذاته بل وضعية انتقالية لتحقيق مكاسب معينة.. وحده العمل والعمل المتقن بإمكانه أن يكون في نفس الوقت وسيلة وغاية.. أما التضحية (أي السياسات التقشفية) فالغاية منها إنما هي درء خطر اكبر من حجم التضحية والعمل على زوال الأسباب التي أدت إلى وجوب اتخاذ هذه الإجراءات الموجعة..
فعندما تضطر البلاد إلى تقليص بعض النفقات العمومية أو طلب التضحية من الأجراء فذلك يهدف – أو ينبغي أن يهدف – إلى خلق ظروف تأمين الخدمة العمومية وكذلك المكاسب الاجتماعية (تقاعد ..تأمين على المرض..)
وتونس لو أرادت معالجة جدية لكل أبعاد الأزمة المالية والاجتماعية التي تعيشها فلابدّ من وضع كل الملفات العاجلة على طاولة الحوار وإيجاد حلول شاملة تتناغم فيها كل هذه الإصلاحات مع بعضها، لا أن نبدأ بها واحدة واحدة فلا نحدث الرجة المرجوة بل وقد يتسلل التناقض والتعارض بين كل هذه الإصلاحات..
لقد حاولت حكومة الشاهد أن تبدأ بكتلة الأجور وأرادت أن تؤجل الزيادات المتفق حولها مع المنظمة الشغيلة في قانون المالية لهذه السنة ولكن رفض الاتحاد قد أجبر الحكومة على التراجع بل كان الاتفاق النهائي أكثر «ضررا» بالمالية العمومية إذ فقدت بموجبه الميزانية حوالي 300 مليون دينار بحكم مراجعة الضريبة على الدخل..
وتبقى نقطة التحكم في كتلة الأجور النقطة ذات الأولوية المطلقة للبلاد ولشركائها أيضا وذلك لسبب بسيط إذ لا يقرض الدائنون البلاد لكي تنفق هذه القروض في تسديد أجور موظفيها ..
المفارقة الغريبة في تونس والتي تجد كل حكومة صعوبات كبيرة للإقناع بها هي أنّ نسق «عيش» الدولة أرفع بكثير من إمكانياتها ..أي أن إمكانيات البلاد لا تتلاءم البتة مع حجم الوظيفة العمومية فيها ومع نوعية التغطية الاجتماعية المعتمدة عندنا ..
فيكفي أن نذكّر فقط برقمين : تضاعف كتلة الأجور خلال خمس سنوات فقط وانتقال عدد الموظفين من 440.000 سنة 2010 إلى 640.000 سنة 2016 دون أن يصحب هذا الإنفاق العمومي تحسن ولو نسبي في الخدمات المسداة من قبل الإدارة التونسية لا على المستوى التربوي أو الصحي أو النقل أو غيره..وحدها الخدمات «السيادية» تحسنت كثيرا بالنظر إلى المخاطر المستجدة في البلاد ونقصد بها الحرب على الإرهاب ..
والسؤال هو كيف نقلص نسبيا من عدد الموظفين (حوالي خمسين ألف على امتداد خمس سنوات) دون أن نثقل كاهل الدولة أو كاهل الصناديق الاجتماعية مع تحسين مستمر لأداء الإدارة التونسية..
لنأخذ مثالا واحدا على ذلك :
في السنة الدراسية 2010/ 2011 كان عدد التلاميذ في المدرسة العمومية في كل مستويات التعليم يقدر بـ1998.286 ويقابله 134.979 مربيا .. بعد خمس سنوات (السنة الدراسية 2015/ 2016) تراجع العدد الجملي للتلاميذ بحوالي 14.000 في المقابل ارتفع عدد المربين بأكثر من 7.000..
ولا أحد يجرؤ اليوم على القول بأن المدرسة العمومية في أفضل حال ..
هذه هي السياسات التي ينبغي مراجعتها حتى لا تكون الوظيفة العمومية عبئا على البلاد بأسرها.
ما لم تقتنع به قوى عديدة في المجتمع هو أن إمكانيات الدولة ، أيّا كانت هذه الدولة، محدودة وان كل ما تنفقه على «نسق» عيشها – أي جملة الإنفاق العمومي- سيكون حتما على حساب قدرتها على الاستثمار في البنية التحتية وفي المرافق العامة كما يضطرها أيضا إلى الاقتراض الأجنبي..
إن رغبتنا في المحافظة على الوظيفة العمومية كما هي عليه الآن إنما هو تهديد لها على المدى المتوسط وارتهان لقدرة البلاد على النهوض من كبوتها..
ظروف تونس اليوم،وظروف العالم بصفة أعم، تفرض علينا أن نقلص تدريجيا في الإنفاق العمومي وان نستثمر أكثر في تنمية جهاتنا الداخلية وان نتداين أقل وأن نعمل بصفة أفضل (الإنتاجية) وعلى فترة أطول (الترفيع في سنّ التقاعد) وان تغيّر الإدارة من فلسفة عملها (المراقبة القبلية البيروقراطية) عندما يتعلق الأمر ببعث المشاريع من متجر صغير إلى المشاريع الكبرى حتى نحدث انسيابية في نسيجنا الاقتصادي ونخلق الثروة التي نريد تقاسمها فيما بعد..
هذا غيض من فيض ، كما يقال ، وينبغي أن نضيف إليه معضلة المؤسسات العمومية وألا تخشى من خوصصة بعضها، أو من إنشاء مؤسسات عمومية عند الاقتضاء وأن ننهي مسألة ترشيد الدعم وتوجيهه فقط إلى مستحقيه..
الإشكال هو أننا لا يمكن أن ننجح في هذا الامتحان العسير دون تضافر كل الجهود ودون اقتناع عام بان عموم التونسيين هم الذين سينتفعون من هذا العمل الإصلاحي..
لو أجلت بلادنا كل هذه الإصلاحات العاجلة ، بحكم غياب التوافق مثلا، سيكون ثمن التضحية أكثر ارتفاعا وأكثر إيلاما..
هذا هو التحدي الأكبر للتشاركية الاجتماعية إذ وحدها البلاد التي توافقت فيها كل أطراف الإنتاج على الإصلاح هي التي نجحت أمّا تلك التي يتفرق فيها المجهود وتتناحر فيها القوى فالارتكاس كان مالها المحتوم..
فالتشارك الأهم ليس حول تعيينات الوزراء أو الولاة أو المعتمدين (على أهمية كل هذا) بل على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى.. وكم نود لو أفصح كل طرف اجتماعي أو سياسي عن تصوراته حتى يكون النقاش فيما يفيد البلاد ومستقبلها..