هذا الأداء المهزوز كانت له انعكسات سلبية فعزّزت المخاوف من سلطة قضاة متغوّلة ،أي «سيّدة نفسها»، و عزّزت أيضا الرأي القائل بأن كل السلطات مهما كانت، لا بد أن تخضع لرقابة ، لأن كل سلطة مطلقة تنتهي إلى التجاوز و الحيف و إن سعت إلى العدل .
و للتذكير فإن القانون الأساسي المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء تمّت المصادقة عليه من طرف مجلس نواب الشعب في 23 مارس 2016 بإجماع 132 نائبا ، مستأنسين برأي الهيئة الوقتية للقضاء العدلي الّتي» فوّضت النظر « للجلسة العامّة في إتخاذ ما تراه .» و لم يختمه رئيس الجمهورية إلاّ في 28 /4 /2016 ، بعد أن تمّت إحالته عليه من الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين الّتي إكتفت بالتصريح بـ «عدم حصول الأغلبيّة المطلقة» لاتخاذ قرار « في شأنه حسب ما جاء آنذاك في بلاغ لرئاسة الجمهورية .
و رغم الأخذ و الرد حول هذا القانون الأساسي فقد اتجهت إرادة الجميع و لو كان البعض على مضض ، إلى البدإ في تجربة جديدة محتاجة إلى ترسانة من الإجراءات و التغييرات لتجاوز الأوضاع المتردية للقضاء عموما.
و رغم التلويح في مرحلة أولى بعدم الإنخراط في انتخابات المجلس الأعلى للقضاء فقد تم في 23 أكتوبر 2016 انتخاب أعضاء هذا الهيكل ، ولكن كانت مشاركة الناخبين دون المأمول و تبرّم البعض من النتائج ، مّما دفع بالبعض إلى إعادة قراءة مختلف التوزانات الّتي ستحكم المجلس الأعلى للقضاء خلال الشهر الّذي تبقّى لتركيز المجلس و كان ذلك في الفترة الممتدّة بين 14 نوفمبر و 14 ديسمبر 2016 ،و تراءى لجمعية القضاة و أطراف أخرى داعمة لها أن قيادة التركيبة ستؤول إلى أحد الموالين أو المقرّبين لحركة النهضة و هو ما كان خارجا عن التوقعات ، لذلك تمّ اعتماد الثغرات القانونية الّتي تتيح التعديل و تغيير الكفّة ،و هو نفس الأسلوب الّذي تمّ اعتماده في حركات جزئية سابقة من طرف نفس المقربين للنهضة .
الحل كان في الاستناد إلى مقتضيات الفصل 74 من القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 الّذي يتيح للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي مواصلة مباشرة مهامها إلى حين استكمال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء بهياكله الأربعة وإرسائه.
و من هذه المهام إقتراح سد الشغورات الّتي سارعت الهيئة الوقتية بالمبادرة بها ، و إقتراح التسميات الّتي ما تزال إلى حد الآن على طاولة رئيس الحكومة و هو ما أدى إلى الوقوف في زنقة حادة بإضافة إختلاف جديد بخصوص دعوة رئيس الجمهورية الأعضاء المنتخبين إلى أداء اليمين بقصر قرطاج .
إن جمعية القضاة و المؤيدين لها يعتبرون اللّجوء إلى سد الشغور بعد انتخابات المجلس الأعلى للقضاء أمرا قانونيا و حتى لو تمّ توصيف ذلك بأنه مناورة قانونية ، طالما لم يقع استكمال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء . و قد سبق أن أشرنا في»المغرب» إلى أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لم تعر شرط استكمال التركيبة الأهمية اللاّزمة عندما باشرت العملية الإنتخابية للمجلس الأعلى للقضاء دون وجود ترشح عن صنف المدرسين الباحثين في المالية والجباية لعضوية مجلس القضاء المالي (المغرب 4 ديسمبر 2016) فضلا إلى عدم التحسب من الشغور و آثار عدم سدّه في الآجال المناسبة .
لم نستبعد اضطرار السيد يوسف الشاهد إلى تثبيت مقترحات الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ...» و لكن لم يحدث ذلك إلى حد الآن .والسبب لا يخرج عن إحتمالين: فإمّا أن رئيس الحكومة غير مطمئن للتسميات و يلتقي مع قراءة المقربين من النهضة في تقييمها .أو أنه ليس له اعتراض على التسميات غير أنّه لا يريد إغضاب حلفائه في الحكم ،حتى لا نستعمل عبارات أخرى .
هذه الوضعية جعلت جمعية القضاة تدخل في تحركات لحمل رئيس الحكومة على تثبيت التسميات لسد الشغور ، وهي تحركات مرشحة للتصعيد ، وتشعبت الأمور بعد أن أعلنت بقية الأطراف الممثلّة للقضاة عن مساندتها لتحركات الجمعية ، الأمر الّذي أدخل اضطرابا على سير القضاء .
و هنا نعود إلى شأن القضاة الّذي ما فتئ يشهد نوعا من التشرذم من الداخل بسبب اختلاف الرؤى و عدم التوصّل إلى توحيد كلمة القضاة ، بسبب أخطاء فردية ، و بسبب عدم القدرة على تجاوز مخلّفات الماضي الّتي تركت شروخا عميقة في صفوف القضاة، و نقص التجربة بحكم سيطرة عقلية «الإداري» على عقول القضاة الّذين لم يتعوّدوا على مباشرة المهام الكبرى ، و يضاف إلى ذلك انعدام الثقة والتدخلات السياسية . وما زاد الطين بلّة المقاربات الإنعزالية في معالجة الشؤون القضائية عموما .
مرّة أخرى تقف عجلة المجلس الأعلى للقضاء عند عقبة أخرى ،بالرغم من توفّر إمكانيات هائلة في صفوف العائلة القضائية الموسّعة الّتي لو تناولت موضوع كيفية تنظيم السلطة القضائية بتروّ و تبصّر بعيدا عن الفئوية الضيّقة ، لتوصّلت إلى تحقيق التوازن المنشود بين سلطة القضاء و بقية السلط . ولعلّه لم يبق غير الاحتكام إلى مزيد التحاور لتغليب المصلحة العليا ، بتشريك كل الفاعلين في الشأن القضائي و نبذ التشرذم والإسراع بإيجاد مخرج لهذا المأزق.