لن نقحم ما تحقّق في تونس في ما سمّي بالربيع العربي ، بل قد لا يصحّ الحديث أصلا عن ربيع في بعض الحالات و الفترات ،لأن ما عاشه الشعب في كل الأحوال لم يكن مفروشا بالزهور ، بل عرفت البلاد في مختلف الفترات هزات إجتماعية و أحداثا دامية و فترات صعبة وقاتمة ، زرعت الخوف من المستقبل.
و لكن كل هذا لا يمكن أن يغيّب ما تحقّق من مكاسب في مجال الحريات العامّة وبداية الانتقال الديمقراطي من تداول على السلطة وتحكيم آليات انتخابية كانت فاعلة رغم الخلل في بعض ضوابطها ، وإقرار لدستور توافقي «جميل» ، و إرساء مؤسسّات جديدة تحترم مبدأ التشارك واعتماد مسالك جديدة لضمان حرية التعبير و الصحافة و الرأي، وإجمالا، خلقُ مناخ عام يشعر فيه المواطن بأنّه أكثر تحرّرا ممّا عرفه في الفترات السّابقة.
لذلك يمكن القول أنّ خيارات الشعب التونسي كانت موفّقة نسبيا ، قياسا بما عرفته شعوب عاشت نفس التحوّلات ، واعتبارا لما وقع تجنّبه من مخاطر و من منزلقات ، كانت ستؤدّي بالتجربة التونسية إلى ما لا تحمد عقباه لو لم يقع تعديل مسارها في أكثر من مناسبة بذكاء و إرادة مجتمعها المدني . كما يجدر القول بأنه على المستوى التشريعي توصّل التونسيون إلى وضع مؤسّسات جديدة و صياغة دستور يعكس تطلعات مختلف الفئات و يترجم توافقا واسعا بلغ حدّ وضع تصورات متناقضة أحيانا ، لإرضاء الجميع في مرحلة تبقى في نهاية الأمر ، مرحلة انتقالية بكل المقاييس .
فعلى المستوى السياسي العام يمكن اعتبار الست سنوات الأخيرة فترة مخاض عسير ، تحّقق فيها الأدنى المطلوب لرسم بداية المسار بأخف الأضرار .
و لكن ما ينتظر الشعب التونسي لمواجهة تحديات المستقبل ليس هيّنا ، لأنه لم يقع تجاوز مخاطر الانتكاسة و لم يقع القضاء على أسباب التقهقر ،سواء على المستوى السياسي أو على المستويين الاقتصادي والاجتماعي .
فعلى المستوى السياسي لم يقع تركيز نظام سياسي قوي و متماسك تحكمه دولة القانون والمؤسّسات ، ومستند إلى مرجعية فكرية تضع قيم الجمهورية و القيم المدنية و الحداثة ، محل تطبيق فعلي و جريء ، نظرا لأن التوافق الظرفي أو الّذي تفرضه التوازنات الإنتخابية ، يبقى هشّا ، لأنه لا يعكس العقلية الحقيقية لبعض التشكيلات الحزبية والسياسية رغم الخطاب المتفتّح المعلن. و إذا أضفنا إلى هذا، ما يتربّص بالبلاد من مخاطر الإرهاب والتشدّد والعنف ، فإن مشاعر الإطمئنان على مستقبل البلاد لن تتوفّر .
كما لا يغيب عن أحد ، أن القوى و النخب والتشكيلات الحزبية و السياسية ، الّتي ترفع راية الحداثة والقيم الجمهورية ، ليست موحدة هيكليا وليست متّحدة في مجابهة القوى المعادية لها و المختلفة معها ، بل نجدها أميل للمهادنة و اللّهث عن المواقع و إكتساب مراكز القوى ، وتتعامل مع الشأن السياسي يوما بيوم ،و بردود فعل متسرّعة، دون أن تستند إلى أي إستراتيجية ، و دون أن تعترف بأخطائها ،مع سعيها الدّائم لإعادة التشكل بنفس الأشخاص، دون أن تعمل على التفتح على القوى و الكفاءات الصامتة أو المُغيّبة ، وبالتّالي تستنسخ نفسها بنفس المساوئ .
والإشكال الحقيقي أن القيادة السياسية لا تملك الإرادة السياسية الحقيقية لتجاوز الأزمات المتراكمة ، بل تكتفي بإدارتها و تعديل مساراتها، و محاولة التحكّم أو التحكيم فيها ، دون النفاذ إلى حلول جذرية تقطع فيها مع الحلول الترقيعية والتلفيقية ،و دون العزم على وضع تصوّر إستراتيجي يعيد النظر في الآليات الّتي ظهرت مساوئها و في الخيارات الّتي انكشف قصورها ، فيجنب الدولة الهزات المحتملة حاضرا ومستقبلا .
أمّا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ، فإن ما كان ينتظره المواطن في عيشه اليومي ، بدا صعب المنال و كان ذلك انعكاسا مباشرا للسياسات الخاطئة الّتي سلكتها الحكومات المتعاقبة ، و الّتي بقيت تدور في حلقة مفرغة، بسبب الفشل في التوصّل إلى إرساء سياسة واقعية و حازمة ، توفّر الشغل و تضمن تواصل الإنتاج و تحسين الإنتاجية ، و تحافظ على نسق الاستثمار و تفتح له آفاقا جديدة ،و تدعم السلم الإجتماعي و تقدر على تجاوز الإشكاليات الّتي تخلق التوتّر .
فماذا يمكن أن يقول التونسي عند تقييمه للسنوات الست الماضية ؟
قد تهزّه النخوة بـ«ثورة الكرامة» لكونه حقّق جزءا هامّا ممّا كان يصبو إليه من حرية، و لكنّه سيبقى شاعرا بنوع من الخيبة ، لأن وضعه المعيشي كان بعيدا عمّا كان يأمل ، ولأن ثقته في النخب السياسية مهزوزة ويشعر أنها خذلته و لم تحقّق ما كان يطمح إليه ، و لأن مخاوفه من المستقبل لم تتـــبدّد، غير أنّه إذا صدّق أن «مرحلة الشك» هذه، محطّة لا مفرّ منها في كل المجتمعات الّتي عرفت تحوّلا في مساراتها، فإنه يستعيد الأمل في أن يكون الغد أفضل... و لكن متى و بأي ثمن؟