إن المعضلة التي كانت تواجه تونس هي بالأساس التدني المتواصل للموارد الجبائية وما سببته من انخرام في العدالة الجبائية من جهة ومن جهة أخرى من ضعف في قدرات الدولة المالية الكفيلة بتجاوز الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد بسبب ضيق مجالات الإستثمار وضعف الإنتاج، لذلك سعت مصالح وزارة المالية للبحث عن الآليات الكفيلة بالتضييق قدر الإمكان على المتهرّبين الجبائيين وإخضاع كل المداخيل إلى الاداء الضريبي مع الترفيع في نسبة بعض الضرائب لتجاوز النقص.
ولو أن بعض الفصول التي كانت محل تركيز بخصوص المهن الحرة غير التجارية، سقطت، فإن العديد من النصوص قد تمّت المصادقة عليها وتمريرها دون أن تلقى أي معارضة رغم أن بعضها لا يختلف كثيرا عن النصوص المسقطة من حيث استهدافها لمختلف الشرائح المعنية بالآليات الجديدة التي تمّ إقرارها.
ففرض التنصيص على المعرّف الجبائي على كل أصحاب المهن الحرّة على مختلف الوثائق المتعلّقة بأعمالهم بحيث لم يعد بالإمكان اعتماد أي وثيقة لا تتضمّن هذا المعرّف، وإحداث فرقة الأبحاث ومكافحة التهرّب الجبائي بالإدارة العامّة تمارس وظائفها تحت إشراف الوكلاء العامين لدى محاكم الإستئناف مع تمتيعها بصلاحيات واسعة في المراقبة والتتبع، وضبط دخل الأشخاص الطبيعيين الخاضع للضريبة استنادا إلى عناصر مستوى العيش، وتأهيل قابض المالية للقيام بالتعريف بإمضاء الأطراف ،بالنسبة لمختلف العقود الناقلة للملكية أو المعدّلة لها وعقود تسويغ العقارات أو الأصول التجارية أو عقود التفويت فيها، وأخيرا رفع السر البنكي في المراجعات الأولية والمعمّقة دون أن يتوقّف ذلك على إذن قضائي، كل هذه الإجراءات الجديدة، ستدخل تغييرا كبيرا في النظام الجبائي التونسي .
هذا التغيير اعتبره رئيس الحكومة في كلمته أمام مجلس نواب الشعب إثر المصادقة أمس على مشروع قانون المالية، إشارة انطلاق وبداية إصلاح ومنعرجا للنهوض الاقتصادي وتحسين التوازنات المالية، باعتباره سيوسّع في إدماج المعنيين بالضريبة وسيمكن الإدارة من استخلاص الضرائب .
ولكن وبقطع النظر عما تثيره بعض النصوص من مجادلات قانونية، فإن مشروع قانون المالية 2017 أثار بشكل لافت وربّما لأول مرّة جدلا كبيرا واسترعى إهتماما كبيرا من مختلف الفئات، وكان محل متابعة سواء في صياغة مشاريع نصوصه الأولية، أو عند مناقشتها وعرضها للمصادقة، وما صاحب ذلك من مجادلات وتعديلات. ولا شك أن ما تمّ وضعه من آليات جديدة لمتابعة المداخيل وتعقّب أثرها ومسالكها، وما وقع إقراره لضمان إستخلاص الضرائب، يبقى رهن التطبيقات، التي لن تكون هيّنة و مضمونة النتائج .
إن نجاعة النصوص القانونية وسلامتها، تظهر في مجال التطبيق خاصّة إذا كان الهدف المنشود هو ضمان عدالة جبائية لا يحصل فيها أي حيف ولا يتخلّلها أي تجاوز، وينخرط فيها كل المواطنين اقتناعا منهم بمقتضيات واجب المواطنة ولكن في كنف إحترام جميع الحقوق دون إجحاف. لذلك يؤمّل أن يقع القطع مع العقلية السائدة ، وألاّ تؤدي القواعد الجديدة وطرق تطبيقها إلى «الانكماش» وتقلّص المبادرات الفردية، والبحث عن سبل أخرى عن مواقع أو أماكن أكثر أمانا «جبائيا».
فالآليات الجديدة لن تحتاج فقط إلى وسائل عصرية في المراقبة والمتابعة، بل ستحتاج أيضا زادا بشريا مؤهلا علميا، ومهيئا أخلاقيا تتوفّر لديه قيم النزاهة والصدق والمساواة، باعتبار أن الفساد المتفشي يترعرع في ميدان أنظمة المراقبة الصّارمة خاصّة في مجالات التهرّب والتهريب. كما تحتاج سبرا ميدانيا متواصلا لمتابعة آثار الآليات الجديدة ولمدى نجاعتها في تحقيق الأهداف المرجوة منها، والتهيؤ لفرضيات التعديل أو مزيد إعادة ضبط أية آلية ثبت قصورها أو كشف التطبيق عدم سلامتها.