أكثر من موقوف ومسجون في ملفات قضائية، وأول الغيث كان إطلاق سراح سنية الدهماني، ثم تلاه قرار الإفراج عن الوزير الأسبق سمير بالطيب ومجموعة هنشير الشعّال، بضمان مالي للبعض ودونه للآخرين.
مشهد متزامن، متباين في جزئياته القانونية، لكنه موحّد في دلالاته السياسية، التي تتجلى في أننا لسنا أمام إسقاط للتتبع القضائي، بل إفراج مشروط، سواء بضمان مالي أو لوضع قانوني خاص. وهذا كا يجعل المشهد يوحي بأننا لسنا أمام انفراج ولكن ايضا لسنا أمام مجرد إجراءات قضائية عادية، بل أمام لحظة مركّبة تأتي القرارات فيها لا لتنهي الازمات، بل لتعيد ضبط إيقاعها، وتذكّر الجميع بأن المشهد ما يزال محكوما بقواعد لم تتغير.
وهنا يصبح السؤال الذي تطرحه الأحداث: ما الذي يحدث حقاً؟ لماذا جاءت هذه الإفراجات في لحظة واحدة؟ وهل نحن أمام بداية تحوّل في المزاج السياسي للدولة، أم أمام إدارة ظرفية لارتفاع الضغط عليها؟ سؤال يبدو بسيطاً حين يطرح منفردا، لكنه حين يقاس على مشهد عام يزداد ضيقا يصبح سؤالا مفتوحا على أكثر من قراءة.
فقرار السراح الشرطي لفائدة سنية الدهماني ـ التي استقبلت أمام باب السجن بالزغاريد والعناق ـ جاء بعد مطلب تقدّمت به عمادة المحامين، ختمه عميدها وقدّمه إلى وزارة العدل. خطوة قانونية واضحة في ظاهرها، لكنها تحمل قراءات حين توضع في سياقها السياسي. الدهماني نفسها ذكّرت في أول تصريحاتها بأن فرحة الإفراج حقيقية لكنها مشروطة، لأن «كابوس» المرسوم 54 لم يغادرها بعد، كما لم يغادر عشرات التونسيين الذين تلاحقهم قضايا مشابهة. تلميح دقيق ، فالإفراج هنا ليس نهاية الكابوس، بل محطة على طريق طويل من التتبعات لم تغلق.
الإفراج عن الوزير الأسبق سمير بالطيب، وإن لم يكن متصلا بقضايا حرية التعبير، يبدو أنه خرج بدوره من الصندوق ذات وبذات المقاربة التي تبحث عن ضبط التوتر لا معالجة جوهر الملف. ففي هنشير الشعّال، جاء القرار الافراج بضمان مالي للبعض ودونه لآخرين، في ترتيب محسوب لا يعلن أن الدولة تعيد النظر في خياراتها، بل يؤكد أنها الممسكة بالمشهد، تقرّر درجة الانفتاح وترسم حدود التهدئة، وتوجه رسالة مفادها ان الدولة يمكن أن تخفف قبضتها، لكنها لا تفقد قدرتها على الضبط ولا تسمح بأن تقرأ هذه الخطوات كتحول أو اعتراف بالخطأ.
وهذا قد يلمح الى ان الدولة تدرك أن الزمن قد يتحول إلى عبء. فكلما طال زمن الايقاف، زاد توتر الملف، وكلما احتشد التضامن الحقوقي والنقابي والإعلامي ارتفعت الكلفة السياسية. وهنا السلطة ربما لا تخشى النقد في حد ذاته، لكنها تخشى النقد الذي يجد صدى، والذي يتحول إلى قضية تجبرها على الرد. وفي ملف الشعّال، يكفي التذكير بأن المتهم الرئيسي سبق أن أفرج عنه مقابل ضمان مالي قدره 50 مليون دينار، بينما بقي بقية المتهمين وراء القضبان، فتراكمت الانتقادات. وفي ملف الدهماني، توّجت الإعلامية قبل أيام بجائزة دولية، وتصاعدت المواقف الحقوقية، لتجد السلطة نفسها أمام مشهد لا يمكن تجاهله.
من هنا قد يذهب البعض إلى استنتاج أن الدولة لا تخاف ممن يصرخ، بل ممن يحول الصراخ إلى قضية، إلى خطاب جماعي يربك شرعيتها ويصنع رموزا خارج سيطرتها. وفي هذه اللحظة، يصبح الإفراج المشروط ليس تراجعا، بل مناورة، تكفي لتهدئة الضغط دون أن تعالج الأزمة. في محاولة لإدارة الملفات لا لتغيير فلسفة المعالجة. فالمرسوم 54 لم يمس، والتتبعات لم تغلق، ولا مؤشرات حقيقية على إعادة النظر في نهج ادارة الشان العام. وهذا ما يدحض القول بأننا أمام بداية انفراج سياسي أو تحوّل في المزاج العام للسلطة.
فمن الأرجح أننا أمام سياسة معالجة الملفات كلّ على حدة، اي أن كل ملف يدار بوصفه حالة منفصلة، وأن النظام لا يحب أن يرى وهو يتراجع بل وهو يتحكم. ويبدو ان هذا هو جوهر المقاربة المتبعة اليوم، والتي تعلن من خلالها السلطة انها تمارس الحكم بمنهجية بسيطة وهي تشدّ حين يغيب الصوت، وترخي حين يرتفع. تصعّد عبر الإيقاف، وتهدئ عبر الإفراج