تحليل إخباري: عدم إمضاء رئيس الجمهورية مشروع تعديل المجلة الانتخابية الفراغات: واختيار الحلول على المقاس !

لا شك أن التشريعات المتصلة بالحياة السياسية وبممارسة السلطة ، الّتي تترك فراغات أو الّتي تكون قابلة لعدّة تأويلات وقراءات ،

هي تشريعات ضعيفة وتنمّ عن ضيق أفق واضعيها إذا حصل ذلك دون قصد، وعن عدم نزاهتهم إذا تعمّدوا اختيار صياغة منقوصة ومخاتلة. وفي كلتي الحالتين يمكث السياسيون و«محترفو السياسة» في وضعية ترصّد للزلات والنواقص قصد توظيفها حسب مشيئتهم. ويمكن إدراج عدم ختم رئيس الجمهورية لمشروع التعديلات المدخلة على القانون الإنتخابي قبل نشرها بالرائد الرسمي ، كنتيجة لضعف التشريع وكردّة فعل على ما تمّ استغلاله من فراغات من طرف الحكومة التي كانت وراء إدخال التعديلات على القانون الانتخابي ، وبذلك تكون تونس قد دخلت في مناخ قانوني غير مستقر ومتقلّب، ويُخشى أن تتحوّل قراءات القانون أوسع من عباراته ومفاهيمه و مقاصده.

إن تمرير الحكومة للتعديلات بواسطة أغلبية برلمانية داعمة لها ، وُصف بكونه مخالفا للأخلاق السياسية و النزاهة ،و قد سبق أن أكدنا في افتاحية 31 /5 /2019 تحت عنوان «مشاريع متأخرة على المقاس ؟» أن الفراغ القانوني يكون مرّة أخرى سببا في إثارة الإشكاليات ، باعتبار ان القانون الجاري به العمل ، لا ينص على الآجال الّتي يجب اعتمادها بخصوص تنقيح النصوص المتعلّقة بالانتخابات والاستفتاء، و لا يمنح الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات إمكانية التدخل في هذه المسألة وفي مسائل أخرى أقل خطورة وأهمية كما أكدنا أننا لا نتخذ موقفا من مضمون المشاريع المقترحة، ولكن تساءلنا عن مدى نزاهة طالبي التعديل بعد مرور أربع سنوات ونصف من الدورة النيابية ، و بعد أن عرف المشهد النيابي تقلبات وتغييرات في الكتل والائتلافات وأصبحت الأغلبية تخضع لمعادلة غير تلك الّتي أرادها الناخبون في آخر انتخابات أي سنة 2014.

و لكنّ تمسّكت الحكومة و الأغلبية البرلمانية الّتي تدعمها بموقفها، فاستغلّت «الثغرة» القانونية و أصبح المشروع قانونا بعد أن رفضت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين الطعن فيه، غير أن «ثغرة» أخرى استغلها رئيس الجمهورية ، فاستبعد ما تمّ اقراره وعاد الجميع إلى المواقع السابقة ولكن بتداعيات جديدة سنشهد أثرها بعد شرح رئيس الجمهورية أسباب ما ذهب إليه.

و لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تقييم موقف رئيس الدولة الّذي لم يلجأ إلى رد القانون لقراءة ثانية ، و لم يحكّم مباشرة الشعب عبر الإستفتاء، و إستغّل «ثغرة» في القانون ليمتنع عن ختم التنقيحات المدخلة على القانون الانتخابي ، لسبب لم يفصح عنه بعدُ، ولكن يُستشفُّ من تصريحات المقربين منه أن يكون ذلك بسبب رفضه تعديل قواعد التنافس الإنتخابي في مدّة قصيرة قبل الانتخابات في اتجاه التضييق و الإقصاء، و هو نفس الموقف الّذي سبق أن دافع عنه و الّذي أتاح للعديد من السياسيين المنتمين لحزب التجمع المنحل ، مواصلة أنشطتهم السياسية في مختلف الأحزاب و التحوّز بمواقع في مختلف مؤسسات الدولة.

إن عدم امضاء رئيس الجمهورية لمشروع تعديل القانون الانتخابي ، يمكن توصيفه هو الآخر «برفض على المقاس» و نحسب أن لسان حال المؤيدين له يردّدون «البادئ بالبادئ، والبادئ أظلم»، و هو قول بعيد عن ضوابط دولة القانون والمؤسّسات .

هذا الموقف حسم في الوقت القاتل مسألة التنقيحات الّتي كان من المزمع تطبيقها على الإستحقاقات الإنتخابية المقبلة ،لذلك يبقى الجدل القائم حول مصير التعديلات غير المختومة ، مجرد «رياضة ذهنية» بإعتبار أنه تم إستبعاد تطبيق التعديلات بإرادة واعية و بقراءة ناجمة عن رد فعل على وضع قواعد لم يستسغها رئيس الجمهورية ، و بإعتبار أن المسار الإنتخابي انطلق ومن غير الممكن التراجع فيه.

هذه الحالة تؤكّد أن المجلس التأسيسي واضع الدستور ،كان محكوما بالتوافقات و لم يستأنس بـ «الرؤية» الثاقبة لمختلف الوضعيات التي يمكن أن تنشأ عند التطبيق، و هو أمر أشار إليه الحقوقيون في أكثر من مناسبة ،و صدقت توقعاتهم في أكثر من حالة ، وهو ما يجعل من أهم مهام نواب الشعب في الإنتخابات المنتظرة ، إجراء تعديلات على الدستور وعلى العديد من التشريعات الأخرى الّتي تمّ صياغتها دون تروّي وعلى عجل.

هذا الوضع التشريعي بخصوص بعض النصوص الدستورية وغيرها لا يمكن اصلاحها الآن و لن يكون ذلك ممكنا في المستقبل ما لم تتوفّر الأغلبية المطلوبة لإدخال تعديلات دستورية ،لنواب الشعب الّذين ستفرزهم الانتخابات التشريعية المقبلة . و هو أمر مطلوب أيضا لتعديل قوانين أساسية تجابه صعوبات في التنفيذ و أثبتت التجربة استعصاء حلّها طبق التشريع الساري المفعول و الّذي كان سببا في تعطيل و عرقلة تركيز بعض المؤسسات الدستورية .

إن الوعي بهذه الحقيقة ، يطرح مجدّدا ضرورة بحث القوى الفاعلة المتفقة على تحديد العوائق التشريعية المكبّلة للآليات الديمقراطية في النظام السياسي الحالي ، عن صيغ تضمن حصولهم على الأغلبية الكافية لإحداث التغيير ، حتى و إن أقرّوا التنافس في قائمات منفردة و إئتلافية .

ولكن أمام هذه الوضعية الجديدة سيكون الجميع في سباق مفتوح مع الزمن إذا إعتبرنا أن المواعيد الإنتخابية لن تتغيّر في كل الأحوال . فانطلاق الفترة الانتخابية الخاصة بالانتخابات 2019 بدأت منذ 16 جويلية 2019 حيث تمّ الإعلان عن تحجير القيام بالإشهار السياسي أو بث ونشر نتائج سبر الآراء التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالانتخابات والاستفتاء والدراسات والتعاليق الصحفية المتعلقة بها عبر مختلف وسائل الإعلام. هذا فضلا عن البدء أمس الإثنين 22 جويلية 2019 العد التنازلي في رزنامة الإنتخابات التشريعية والرئاسية إذ سيفتح باب قبول الترشحات بعد إعداد قائمات المترشحين طبق القانون الانتخابي ساري المفعول .

غير أن ما يغيب عن القوى السياسية أن رهان المشاركة الواسعة في الإنتخابات غير مضمون من أي طرف ، بسبب العزوف المتفاقم للناخبين ، جراء فقدان الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المعارضة الّتي لم تتوصّل إلى كسب ثقة الشارع بمشاريع تجميعية مقنعة .

و لا يتوقّف الأمر على الخشية من العزوف ومن ضعف مشاركة الناخبين ،بل هناك مخاوف من سوء تطبيق مقتضيات التشريع الجاري به العمل، أمام الخيبات المتواترة من الاجتهادات، وعجز الهيئات الساهرة على ضمان الشفافية وزجر المخالفات بالصرامة اللاّزمة ، الأمر الذي سيجعل رد فعل الناخب الفاعل الأساسي في العمليات الإنتخابية مجهولا. دون أن نتجاهل نظرة الرأي العام الدولي لما يحدث و وقعه على تقييم التجربة التونسية في احترام قيم الجمهورية في مسار ارساء دعائم الديمقراطية الفتية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115