كما يمكن أن نشير إلى التطورات التي عرفتها قطاعات الصحة والتي مكنتها من التغلب على عديد الأمراض والظواهر الخطيرة. وكذلك نفس الشيء بالنسبة للتعليم مما مكّن من الاطلاع على عالم رحب من العلم والمعرفة وفك بعض شفراته وكذلك عرفت الفلاحة تطورا كبيرا مما ساعد على تفادي المجاعات والأزمات الفلاحية الكبرى.
ولم تقتصر هذه التطورات الإيجابية على المسائل الاقتصادية والاجتماعية بل مسّت كذلك المسائل السياسية. فعرفت الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الكثير من التقدم والتطور في العشرية الأخيرة. كما شهدنا كذلك تحسنا هاما في التعاون الدولي وتراجعا كذلك في الحروب والعنف مقارنة بالحرب العالمية الثانية والسنوات التي تلتها.
هذه التطورات جعلت الأمل يكبر منذ سنوات وبصفة خاصة إثر سقوط جدار برلين ونهاية الخوف من اندلاع حرب تكون انعكاساتها أكثر مأساوية على العالم في بداية عصر جديد تنتصر فيه الديمقراطية والتعايش السلمي بين الدول وتنتفي فيه المآسي والويلات التي عرفناها في السابق.
طبعا هذا العالم هو بعيد عن المدينة الفاضلة التي حلمت بها كل النظريات القادمة من رحم الحداثة وبصفة خاصة النظريات الاشتراكية والتي ينتهي فيها استغلال الإنسان للإنسان وتنتفي فيه غربته إلا أن الكثير اعتبر أن انتصار المشروع الديمقراطي هو أحسن حالا من الواقع المر الذي عشناه. وتكفلت نظريات ما بعد الحداثة بإقناع من كان له شك بأن المدينة الفاضلة هي في أحسن الأحوال مستعصية وبعيدة المنال. كما أن الطريق إلى هذه المدينة كانت معبدة بالمآسي أشهرها الغولاق (goulag) والسجون والمنافي التي عرفتها كل الأنظمة التي نعتت أنفسها بالاشتراكية والتي قبرت ووئدت فيها أحلام ونسائم الحرية.
هكذا عشنا لسنوات مقتنعين أننا نعيش في عالم مكننا من تحقيق بعض من أحلامنا الصغيرة ولا فائدة في مواصلة البحث والانتماء للأحلام الكبرى التي طالما ملأت أفكارنا وشحذت طاقاتنا منذ الصغر. علمنا الفلاسفة الجدد ونظريات ما بعد الحداثة أن نسيان أحلامنا الكبيرة والاكتفاء بملذات المجتمعات الاستهلاكية ليست هزيمة بل هي تراجع عن المطلق الذي يسبب الكوارث وانتصار لعالم جديد يمكننا من تحقيق آمالنا الصغيرة ويزيد من حريتنا.
إلا أن هذه القناعة سرعان ما ستعرف تراجعا كبيرا وكأن هذا العالم غير قادر على تحقيق كل الأحلام في النمو والتطور وهذه القناعة تحولت شيئا فشيئا عند العديد من المفكرين إلى شيء من القلق مشوب بالحذر. ومع تتابع الأزمات المناخية والهزات المالية والاقتصادية وظهور بعض الحروب الجديدة وتنامي العنف والإرهاب تنامى الخوف من المستقبل وتراجعت الثقة في قدرة هذا النظام والمشروع الديمقراطي والعولمة الاقتصادية على بناء عالم متوازن وقادر على تحقيق مطالب الناس في التنمية ونهاية التهميش وحماية الطبيعة.
هذه القناعة حول نهاية التاريخ مع انتصار الديمقراطية وبلوغ العولمة مداها تحولت إلى حديث مغاير عند أغلب المفكرين والمثقفين. وأصبح هناك شبه اتفاق وإجماع أن العالم دخل في أزمة حضارية كبرى تتطلب إعادة بناء مشروع إنساني يسمح بالخروج من هذا المأزق التاريخي.
وهذه الأزمة تبرز في عديد الجوانب التي يعرفها العالم اليوم والتي كانت وراء تطور وهيمنة ما سماه العديد من المفكرين والباحثين عالم السخط أو الهيجان العاصف (le monde de la rage).
وهذه القراءة كما قلت هي في جوهر الكثير من التحاليل والقراءات لعل آخرها للمفكر الفرنسي ومستشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران الكاتب Jacques Attali في كتابه الصادر منذ أيام « vivement après-demain ! » عن دار النشر الباريسية المعروفة Fayard.
وعالم السخط يشمل التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الكبرى والتي خلقت جيشا من المهمشين والحانقين والذين لا يرون مخرجا من أوضاعهم إلا بالثورة العاصفة والسقوط المدوي لهذا النظام.
ولن أطيل في وصف هذه التحولات الكبرى في هذا المقال بل سأكتفي بالإشارة إلى البعض منها. أحد هذه المؤشرات هو بقاء نسبة النمو الديمغرافي في مستويات عالية في عديد البلدان الفقيرة ومن ضمنها الساحل الإفريقي وعديد البلدان كمالي والنيجر وتشاد وبوركينافاسو والتي مازال فيها معدل الإنجاب من 6 إلى سبع أبناء للمرأة الواحدة. وهذه النسبة من النمو الديمغرافي ستخلق ضغطا كبيرا على الأرض. وإلى جانب هذا الضغط الديمغرافي لا بد من إضافة تدهور الوضع البيئي والمناخي مع ارتفاع درجة الحرارة وقد كان لهذه الأوضاع الطبيعية والبيئية انعكاسات كبيرة على القطاع الفلاحي في البلدان النامية وخاصة البلدان الإفريقية جنوب الصحراء فقد تراجع الإنتاج الفلاحي والإنتاجية وتدهورت مداخيل الفلاحين في هذه البلدان.
وكان لهذه التطورات انعكاس كبير وتداعيات على مستوى المعيشة وسيشهد مستوى الفقر وبصفة خاصة الفقر المدقع تطورا كبيرا لتصل الأوضاع في عديد البلدان وخاصة في المناطق الريفية إلى مستويات لا تطاق.
هذه التطورات والفقر المدقع ونهاية الأمل كانا وراء ظهور حالة من السخط والحنق على النظام العالمي. وستظهر قوافل المهاجرين التي ستأخذ قوارب الموت لمحاولة الهروب من حالة اليأس وانعدام الأمل والوصول إلى أوروبا كلّفها ذلك ما كلّفها. وتابعنا منذ سنوات هذا الكمّ المسترسل من الهاربين من الفقر والمغامرين لا فقط بحياتهم بل كذلك بأبنائهم القصّر. ولم تمنع المآسي توافد أفواج جديدة من المهاجرين الباحثين عن بصيص من الأمل في العالم الآخر. وتابعنا هذه المآسي في صمت ولم نع مستوى السخط والهيجان الذي تحمله ضد هذا النظام العالمي.
المستوى الثاني من الحنق والسخط يأتي من نتائج الحروب التي عرفتها عديد المناطق والتي لم يتمكّن النظام العالمي ومؤسساته من وضع حدود لها وإيقافها. ومن هذه الحروب نذكر حروب البلقان ومحاولة الآلة العسكرية الروسية إعادة فرض هيمنتها عليها. كما شكّلت الحركة الكردية ورفض دول الجوار إعطاء الشعب الكردي حقوقه الوطنية ومواجهته بترسانة عسكرية بؤرة توتر تاريخية في المنطقة.
ولا ننسى أيضا قضية الشعب الفلسطيني وقضية العرب الأولى وانفلات غطرسة الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين في وضع عدم اهتمام العالم ونسيان هذه المأساة وتجاهلها تدريجيا. ولا بد كذلك من الإشارة إلى نتائج وتداعيات الحروب على العراق ونتائجها التدميرية في هذه المنطقة وانفلات الأمن مع جسامة الدمار الذي حل بالدولة العراقية. ثم جاءت ثورات الربيع العربي والتي ولئن فتحت آمالا كبيرة بنهاية الاستبداد في المنطقة وبدايات التحول فإنها تحولت إلى حروب طاحنة في سوريا واليمن وليبيا.
لقد شكّلت هذه الحروب بؤر توتر وعدم استقرار لن يقتصر على المنطقة بل سيمتد إلى أوروبا وأول تداعيات هذه الحروب هي أفواج جديدة من النازحين التي مسّت بلدان الجوار في البداية ثم لتصل إلى أوروبا في الأشهر الأخيرة ولتكون وراءها بعض المشاهد المأساوية لعل أقساها غياب وغرق الأطفال السوريين عند محاولتهم الهروب إلى أوروبا في قوارب الموت.
إلا أنه في رأيي من أهم تداعيات هذه الحروب هو تنامي وازدياد نسبة الغضب في هذه المناطق على النظام العالمي الذي لم يكن قادرا على وضع حد لمآسيهم وأحوالهم. وجاءت هذه الجموع تغذي هذا العالم المتنامي من السخط والحنق وتسعى إلى الثورة للإيقاع بهذا العالم كلفها ذلك ما كلّفها. ولن يقتصر هذا العالم الساخط على القادمين من البلدان النامية بل سيتعزز كثيرا بالأزمات التي ستهز البلدان المتقدمة.
وهنا نشير إلى ثلاثة تطورات هامة ميزت مرحلة العولمة الرأسمالية في السنوات الأخيرة. المسألة الأولى تهم نمو الفوارق الاجتماعية في هذه البلدان والتي أشارت لها عديد الدراسات والكتب ومن أهمها كتاب « le capital au 21 éme siècle » للاقتصادي الفرنسي Thomas Piketty. ونمو هذه الفوارق جاء نتيجة السياسات الليبرالية من جهة وظهور التكنولوجيات الجديدة والتي ستكون وراء صعود كبير لمداخيل وأجور المشتغلين بها.
المسألة الثانية تهم تراجع البرجوازية الصغيرة ودورها في المجتمعات المتقدمة. وهذا التراجع نشاهده كذلك في عديد البلدان النامية.
المسألة الثالثة التي تعرفها هذه البلدان هي نهاية الطبقة العاملة والحركات العمالية المنظمة. وقد كانت هذه المنظومة ركيزة النظام الرأسمالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وساهمت في ما سمُّي بالثلاثين الذهبية للنظام الرأسمالي والتي كانت أطول فترة نمو لهذا النظام. إلا أن العولمة الرأسمالية عجّلت بنهاية هذا النظام الاجتماعي بتحويلها للقطاعات الصناعية ذات المستوى العالي من اليد العاملة إلى البلدان النامية وقضت بالتالي على التجمعات العمالية التقليدية وعجّلت بنهاية الطبقة العاملة المنظمة التي تحوّلت إلى قطاعات اجتماعية مهمّشة فقدت ثقتها في النظام الحالي.
هكذا ولدت التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى في البلدان الرأسمالية بحرا جديدا من المهمشين الذين سينضافون إلى طوفان السخط والحنق على النظام القائم. وسيساهم هذا الثالوث المتكون من المهاجرين الهاربين من الفقر المدقع واللاجئين الفارين من الحروب وضحايا التهميش والتفاوت الاجتماعي في خلق عالم رهيب من الحنق والسخط والهيجان الذي يريد أن يعصف بأسس النظام الحالي.
وفي الوقت الذي تزال النخب التقليدية تدافع عن أسس وأركان هذا النظام بركيزته الديمقراطية السياسية والعولمة الليبرالية فإن قوى سياسية جديدة أخرى ستحاول وستنجح في استعمال هذا الزخم الهائل من الغضب والحقد والحنق من أجل زعزعة أسس هذا النظام.
فنجد بعض القوى وتحت غلاف الدعاية الدينية وبصفة خاصة الإسلامية تحاول أن تجعل من هذه الجموع وخاصة الشباب وقود حرب لدرء مبادئ التعددية والديمقراطية. كما تعمل قوى يمينية أخرى كذلك لاستجلاب هذه الجموع في معاركها السياسية كما أثبتت المعارك الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
لقد أصبحت هذه الجموع المعبأة بالحقد والحنق ضد النظام الحالي محل اهتمام المفكرين والمثقفين والمحللين. وقد اعتبرها البعض مؤشرا على أزمة حضارية عميقة تتطلب ردودا جديدة ومن جملة هذه الردود أشار بعض المثقفين إلى ضرورة العودة إلى البرامج والأحلام الكبرى التي من شأنها أن تغرس الأمل والثقة في المستقبل وبقدرتنا على بناء تجربة حضارية وسياسية جديدة هدفها الرقيّ بالإنسان وستكون لنا عودة لهذا الموضوع في مقالات قادمة.