في رواية "2160" للكاتب الهادي جاء بالله: عندما يطير الأدب بأجنحة الخيال العلمي ... !

"إلى كل قارئ شغوف بأسئلة الكون والوجود وصلتهما بالمستقبل غير المفصول عن مخاطر أفعال إنسان العصر الحالي،

واعتدائه على أجنحة الطبيعة في صيغتها الكليّة." يهدي الهادي جاء بالله روايته التي جاء عنوانها في صيغة أرقام بلا حروف تحملنا مباشرة إلى سنة "2160" في استشراف لما سيكون عليه العالم بعد عشرات الأعوام من الآن.

بعد روايتي "الدرواس" و"مواسم الرزاز"، أصدر مؤخرا الكاتب والشاعر الهادي جاء بالله رواية جديدة تحت عنوان "2160" عن دار عليسة للنشر. وقد بلغت هذه الرواية في مسودتها الأولى القائمة القصيرة لجائزة توفيق بكار للروية العربية سنة 2021 . جاء تعقيب رواية "2160" بقلم نور الهدى باديس التي وصفت الرواية بأنها "مختلفة عن السائد يحتار قارئها في تصنيفها من حيث توارد الأشكال والأجناس الخطابية ...."

سرد بدقة العلم ومنهجية الفلسفة
منذ البداية جاء عنوان الرواية "2160" متلائما مع سمات العالم في المستقبل حيث ستكون الأرقام حتما هي لغة العصر وسيقترب الإنسان أكثر فأكثر من الآلة لتكون كل الحياة عبارة عن برمجية !
يغري عنوان الرواية بالرغبة في استكشاف عوالمها والتوغل في تفاصيلها في اقتفاء لأثر "فكرة ظلت تتردد في ذهن صاحبها حول إشكاليات البيئة والتغيرات المناخية ومخاطرها على الإنسان المعاصر ..." فإذا بنا أمام رواية تنطلق منذ سطرها الأول صاخبة بالأسئلة مثقلة بالحيرة، كما جاء على لسان "خالد" وهو الرجل السبعيني ما بعد المائة الذي يتساءل قائلا: "ماذا تعني الحقيقة بالنسبة إلي، مقارنة بهذا الرصيد الضخم للبشرية وأفعالها التي تأسست منذ أول ظهور للإنسان المفكر قبل ملايين السنين والتي شهدت انعطافة انفصاله عن الطبيعة...؟"
من صفحة إلى أخرى، تتعدّد الشخصيات وتتطوّر أحداث الرواية ضمن بناء متماسك وحبكة مشوّقة، أجاد الكاتب المسك بمفاتيحها حتى يفتح أبوابا ويغلق أخرى في دقّة العلم وفي منهجية الفلسفة.

شكل حياة الإنسان ما بعد الكارثة الكبرى
في رواية "2160"، نجد أنفسنا أمام مقام أدبي ومقال متشبع بنوع من الخيال العلمي. في توليفة من الرُؤى الوجودية يتداخل بلاغيا وسرديا المعطى العلمي بالأسلوب الروائي لينتج تركيبة عجيبة وغريبة ذات كيمياء طريفة توقع في شراكها قرائها.
إن الوقوف على عتبة سنة "2160" يعني حتما تغير العالم واعتماده بشكل كامل على الآلات في أبسط تفاصيل الحياة. وفي الرواية كان التحول الجذري في حياة البشر هو وقوع "الكارثة الكبرى" في مدينة "رودة" كمثلها من المدن. وفي هذا السياق جاء في الصفحة 22 من الرواية :" لقد أكدت مخابر العلوم الطبية منذ النصف الأول للقرن التالي للحادثة أن إفرازات الحادثة الكبرى الانفجارية في أجزاء مهمة من شمال الكرة الأرضية تمثلت في مادة نتجت من جراء التفاعل الكبير الذي تداخل وفقه الفضاء الخارجي وجزء من باطن الأرض وعمق البحار. هذا التداخل العجيب أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوى على مادة جديدة توسطت "الإيدروجان والأكسيجان" وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة والتي كانت مادة وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض..."
هذه المزاوجة بين لغة العلم ومنطق السرد، وبين الماضي البعيد والحاضر المتأزم، والمستقبل المجهول نجح الكاتب الهادي جاء الله في تطويقها بفضل لغة بسيطة في تعابيرها، وواضحة في معانيها، ومتدرجة في خطابها... دون ثرثرة في السرد ودون إسراف لغوي قالت الرواية ما يجب أن يقال في انسيابية الرواية وفي صرامة العلوم.

تشكيل روائي غير معتاد في الرواية العربية

في تشكيل روائي غير معتاد في المدوّنة الروائية التونسية بل وحتى العربية ، تستقرأ أحداث الرواية "التركيبة الفيزيولوجية للإنسان الذي يتربع على زمن "2160" وما قبله بقليل، رحلة جماعية لإنسان المستقبل وفق تخيل إبداعي. هذا الإنسان الذي سيدفع ثمن الاعتداءات على الطبيعة والتي قد يعيش ارتداداتها مباشرة عند تجلي الكوارث والأوبئة".
يتداخل الواقع مع الخيال ضمن جدلية من الرموز والتمثلات عن إنسان أصابه العجز والوهن في زمن ما "بعد الكارثة الكبرى " ليصبح مصيره معلقا بالتقنية وكل ما هو رقمي وآلي إلى درجة فقدان الإحساس والمتعة بملذات الحياة وتلاشي الهوية واندثار كل القيم الإنسانية.
يغوص الروائي الهادي جاب الله في سرد تفاصيل الحياة في العالم الجديد حيث يعيش الناس في بناءات بلا روح أشد وحشة من القبور تتحكم فيها الأزرار . وقد زاد الأمر قتامة بعد ظهور وباء غريب يشوه كل شيء ويدمر كل ما هي حيّ . وحتى عند اكتشاف دواء "سال سال" لم يبلغ الإنسان الشفاء بمعناه المادي و بعده الرمزي !
تنتهي رواية "2160" بدق ناقوس الخطر من انقراض الإنسان في تذكير بسلسلة من الانقراضات عرفها كوكب الأرض وهي : انقراض العصر الأردوفيسي وانقراض الديفوني المتأخر وانقراض العصر البرمي المتوسط والمتأخر وانقراض العصر الترياسي المتأخر.
بعد الانتهاء من قراءة "2160"، لا تنتهي أبدا في أذهاننا الهموم المناخية والأسئلة الوجودية وانعطافات الرواية على عوالم السياسة والثقافة والمواطنة... لا شك أن كل من سيقرأ هذه الرواية ستصيبه بشكل أو بآخر لعنة الكارثة الكبرى لتثير فيه الحيرة الكبرى !

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115