(1)
إذا تهدّمَتْ الذّواتُ الفرديّة التي للرّجال والنّساء سواءٌ بسواءٍ في المجتمعات بمنتظامتها الحضارية وسُحِقَتْ تلك» «الفرديات» واُنْبَنَتْ جميعها إلى «المجهول» في حضارة تجمّدُ التّاريخ قَهْرا و«تمجّد الجهْلَ المقدس» و«الظلم المقدس» و«العبوديّة المقدّسة» سرا وترفع شِعار«العلم» و«العدل والحريّة» شعارا «للإستهلاك السياسي» لا غير فإنّ هذه الحضارة في نواتها وممارساتها ومؤسساتها تزْرع في عقول مخاطبيها «سلوك القطعان» بتعطيلها لملكات التفكير الشخصي والتقدير الشخصي والمبادرة الشخصية .... وبذلك تكون قد عَدلت عن فكرة «العدل» ذاتها الناظمة لكل المرجعيات الأكْسيولوجية القيمية ودشّنت أعلى مراحل «السّوقيّة» كما هو واقع اليوم ... هنا والآن في تونس كما في سائر بلدان العالم عموما في زمن «الاله الإشهاري» و«الرّب البَضَائعي» رغم احتياطي الشخصي من التّعميم الـمُتسّرع الذي هو «عائق ابستيمولوجي / معرفي» كما هو معروف لدي العامة والعوام . ثمة « تسوّق لغوي / لساني» بالمعنى السوسيولوجي على رأي بيار بورديو لدى معظم «الفاعلين السياسيين» و «الفاعلين السياسيين بالنّيابة عن موكليهم».
(2)
المنتصبون لحسابهم الخاص سياسيا يتبضّعون من الأسْواق اللّغوية العالميّة المتسيّدة والمسْتأسِدَة اقتصاديا / عسكريا على الكون وكذلك يفعل «المنتصبون بالوكالة لحساب سواهم ... فهم يرْضُعون من نفس الثّدي اللّغوي فيُخاطبون المكبوت الإجتماعي والحضاري لدى مخاطبيهم والمتمثّل باستحضار «قطعان من الكلمات» وفق عبارة عزيزة على جورج غيسدورف... هم أنفسهم لا «يعتقدون» فيها أصلا ويسْتسخطونها أصْلا وفَصْلا وكذلك وأيضا يمارسون ضد مضامين تلك الكلمات «المقدّسة» في سوق التسوّق السياسي العالمي والمحلّى فتكادُ تتَقطّع السّلالُ والأكياس اللّسانية البلاستيكية بحمولتها الثقيلة من البضائع اللغوية من مثل: «الحرية» و «حريّة الضّمير» و«الديمقراطية» و«العدالة الإجتماعية» و«التّوْنسة». كم ينسى «القائد» السياسي التّونسي- مثلا- في خطابه اُلْــمُحيّــن اليوم- لإعتبارات براجماتية مُضْمَرة أو سَافرة - ما كان قد صرّح به البارحَة في شأن هذه القضية أو تلك . كم «يُسَفْرِتُ» اللسان السياسي عنْدنا بمعنى «يضع الكلام في غير موضعه» وهو يعرف أن «الكذب...» ممقوت و«النّفاق حرام» فيقتبس من الحِرباء استراتيجيتها في التلّون ومن الأفاعي غريزة تغيير جلدها وما أبلغ ما بلغ اليه الشاعر عنترة من حكمة صحراوية مجربّة حين قال ضمن ما قال:
«ان الأفاعي وإنْ لانَتْ مَلاَمِسُها في أنيابها العَطَبُ
عنِد التقّلب»
(3)
آه يا تونس ويا أمّة العَرب حين هذا الحين ... عند هذا الفجر التونسي تذكرت الفاروق عمر بن الخطاب وتذكّرت عنترة و عمّه النّعمان فاسْتخفني الطّرب واسخفتني فكرة تعزّ على... فكرة «القائد القدوة» شعرا وسياسة وفلاحة وموسيقى وهَنْدسة معمارية و«تربية حضارية وعاطفية».
الآن أدركت أني سلفي عاطفى لا يحب ما أمكن لي تسميته «الإستلافية» السياسية في صيغتها «الدينية» أو «الدنيوية». فالسلام السلام على روح «عنترة».
(4)
لا يحْمِلُ الحِــــقْدَ مَنْ تَعْــــــلُو بِهِ الـــــرُّتَبُ
ولا يـــــــنالُ العــــلى من طبعـهُ الغَـــــضَبُ
ومن يكنْ عـــــــبد قــومٍ لا يخــــالفــــــهمْ
إذا جفـــــوهُ ويســـــترضى إذا عتـــــــبــــوا
قدْ كُنْتُ فِيما مَضَــــــى أَرْعَى جِمَــــالَهُمُ
واليَوْمَ أَحْمي حِمَــــاهُمْ كلَّـــــما نُــــــكِبُوا
لله دَرُّ بَـــــــني عَبْـــــــــسٍ لَقَدْ نَسَــــلُوا
منَ الأكـــــارمِ ما قــد تنـــــسلُ الـعــــربُ
لئنْ يعيبوا ســـــوادي فهوَ لي نســـــبٌ
يَوْمَ النِّـــــــزَالِ إذا مَا فَاتَنـــــي النَـــسبُ
إن كنـــــت تعـــــلمُ يا نعـــــــــــــمانُ أن
يدي قصــــيرةٌ عنك فــــالأيام تنـــــقـــلب
ألــيوم تعـــــلم, يانعـــــمان, اي فــــتىً
يلقى أخاك الــــــذي غــــرّه ألعــــــصــــبُ
إن الأفــــــاعي وإن لانت ملامـــســها
عند التــــقلب في أنيابــــها الــعــــطـــــبُ
فَتًى يَخُوضُ غِـمَارَ الحــــرْبِ مُبْتَـــسِماً
وَيَنْثَنِي وَسِـــــنَانُ الـرُّمْــــحِ مُخْتَــــضــــِبُ
إنْ ســـلَّ صــــارمهُ سالتَ مضـــــاربهُ
وأَشْـــــرَقَ الجَوُّ وانْشَـــقـــــَّتْ لَهُ الحُجُـبُ
والخَــيْلُ تَشْــــهَدُ لي أَنِّي أُكَفْــــكِفُهَا
والطّــــعـن مثلُ شـــــرارِ الـــــنَّار يلتهــــبُ
إذا التقيـــــتُ الأعادي يومَ معـــــتركة
تَـركْــتُ جَمْــــعَــهُمُ المَــــــغْـــرُور يُنْــــتـَهَبُ
لي النــــــفوسُ وللطّــــــيرِا للـــــحومُ
وللـوحْشِ العِظَــــامُ وَلِلخَــــيَّالَة ِالسَّـلَـــــبُ
لا أبعـــدَ الله عن عيـــــني غــــطارفة
إنْـــــســــاً إذَا نَـــزَلُــــوا جِنـــــَّا إذَا رَكِـــــبُوا
أســـودُ غابٍ ولـــكنْ لا نيـــوبَ لـــهم
إلاَّ الأَسِـــنَّة ُ والـــهــــــِنْــــدِيَّة ُالقُـــــضْــــبُ
تعدو بهمْ أعوجـــــيِّاتٌ مضَّـــمرة ٌمِثْلُ
السَّــــــرَاحِينِ فــــي أعــــنـــاقها القَبــــبُ
ما زلْتُ ألقى صُــدُورَ الخَيْلِ منْـــدَفِقاً
بالطَّـــــعــــن حتى يضـــجَّ السَّــرجُ واللَّببُ
فا لعميْ لو كانَ في أجفانهمْ نظروا
والخُرْسُ لوْ كَانَ في أَفْوَاهِــــهمْ خَطَــــبُوا
والنَّقْعُ يَوْمَ طِرَادِ الخَيْل يشْـــهَدُ لي
والضَّرْبُ والطَّــــعْـــنُ والأَقْـــلامُ والكُـــتُـبُ»
(5)
أنا لست بالغاضب لا بالمتشائم لكني قلق قليلا لغياب» القائد القدوة».
لقد ورد في كتاب «جامع الترياق من الأواراق» وهي وقائع سردية جمعتها شخصيا من بطون المتون :» لما رجع عمر، رضي الله عنه، من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها.
فقالت: ما فعل عمر رضي الله عنه؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً.
فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! وقال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً.
فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحداً يولّى على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها.
فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر.
ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله.
فقال عمر: لست أهزأ بك.
ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمتُ أمير المؤمنين في وجهه؟ فقال لها عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا متّ فاجْعلها في كفني ألقى بها ربي»
رحم الله «عمرا « و»عنترة « ... وماذا سَنَجعل نحن جميعنا مجتمعين وفرادى في «أكفاننا» حين لقاء مُفْلق الحَبّ...؟
(6)
ان في غياب فكرة القائد القُدوة تُـحـّرفُ «الديانات» وتُباعُ الأوْطانُ ويُــهَان الإنسان والشّجَر والحيوان وتَكْثُــر الإنتحارات وتَضيعُ البُلْدان وتَسْقط الحَضارات. أو هكذا على أقل تقدير ما يبدو لي.
لقد أورد أبو حيان التوحيدي في « رسالة الحياة» حوارا بين الشاعر اليوناني هوميروس صاحب «اّلإلياذة» و«الأوديسا» مع تلميذه :
قال هوميروس: اني لأعجب من الناس وهم يمكنهم الإقتداء بالله... فيدْعون ذلك الى الإقتداء بالبهائم والسّباع.فقال تلميذه :
لعلّ هذا لأنّهم قدْ رأوا أنهم يموتون كما تموت البهائم .
فقال هوميروس :
فلهذا السبب يكثر تعجبي منهم .. انهم يحسبون أنهم لابسون بدَنا ميّتا ولا يحسبون أن في ذلك البدن نفسا حيّة غير مائتة.
فمن من الحي الآن في - تونس مثلا - ومن منا الميت . ومن قبلُ ومن بعْد.
يبقى المجدُ والبَقاء - رغْم مُتواياتِ المحنِ و-الأنكاد- لتُونس والحَرائر والأحْرار ...