لا شك أن هشام جعيط قد علّم كل من قرأ له أو تتلمذ على يديه بأن العقل بوصلة للتفكير السليم في الأحداث والأشياء وأنّ الوعي هو المحرار لقيس الأمور والقضايا. مات صاحب الثلاثية الشهيرة «السيرة النبوية» وفي قلبه ألم وفي صدره غصة لأنه لم يلق في بلاده ما يستحق من تقدير وتكريم كما كان يقول دائما بلسان من الأسف والمرارة.
بعد أشهر من ملازمة فراش المرض بمنزله في ضاحية المرسى بالعاصمة تونس، ودعنا المؤرخ والمفكر هشام جعيط بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز 86 عاما.
مفكر لامع وعالم بارز
إلى آخر نفس في حياته، بقي هشام جعيط ملازما لكتبه ومكتبه ومنكبا على البحث والتأمل في كل السياقات الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للحضارة العربية الإسلامية طوال حياته وعلى امتداد أكثر من نصف قرن من الزمن، كان هشام جعيط مولعا بالنقد، مهووسا بالتحليل، نافذا إلى ما وراء الحجب والمسلمات...
لقد ساءل المؤرخ هشام جعيط التاريخ وتفحص حقبة الإسلام المبكر في تشريح لمفاصل الهوية وشرح لأزمة الثقافة العربية الإسلامية. دون إعادة لما كتبه المستشرقون أو تكرار لما ذهب إليه المؤرخون، اتبع هشام جعيط منهج بحث خاص به حيث كان مسكونا بهاجس «إعادة كتابة السيرة النبوية بطريقة علمية مغايرة لكل السّير التي كُتبت قديما وحديثا».
اشتهر الدكتور هشام جعيط بثلاثيته التي أخضعت السيرة النبوية إلى مخبر الوعي وسلطة العقل بعيدا عن تأثير النقل . كما احتلت الشخصية العربية الإسلامية في سياق التاريخ والهوية حيّزا هاما من فكره وكتبه وعمره... وهو الذي يقول: «اهتممت في بحوثي التاريخية بالسيرة النبوية من وجهة نظر علمية وتاريخية وأعتبر أن الهوية العربية هي إسلامية أيضا وليست عربية محضة.»
أمام سعة علمه وقيمة أطروحاته، نال هشام جعيط اعترافا دوليا في أهم الجامعات الأوروبية كما حاز على تقدير عربي واسع النطاق. حاز الراحل على عدد من الجوائز المرموقة منها: جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها العاشرة عام 2007، وجائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية الدورة العاشرة 2006، والجائزة الوطنية التونسية للعلوم الإنسانية 1989... كما اختارته المؤسسة العربية للدراسات والنشر الشخصية الثقافية لسنة 2016.
هشام جعيط بين الاعتراف والجحود
على خطى المؤسسين والمؤرخين الكبار، أرسى هشام جعيط في الجامعة التونسية ما يعرف بـ«الإسلام المبكر» وساهم في تأثيث المكتبة التونسية بمؤلفات وكتب لم يأت بها الأوّلون ولم يصل إليها أحد غيره... ولكن رغم هذه المسيرة الثرية والمشرفة، فإن هشام جعيط تولى منصبا وحيدا في حياته المهنية ألا وهو انتخابه رئيسا للمجمع التونسي للعلوم و الآداب والفنون «بيت الحكمة» سنة 2012. كما لم تحظ كتابات الراحل باهتمام كبير من المثقفين والأكاديميين التونسيين باستثناء صدور كتاب «جدل الهوية والتاريخ، قراءات تونسية في مباحث الدكتور هشام جعيط» عن دار سوتيميديا للنشر والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس. ويعتبر هذا الأثر أوّل كتاب من تأليف أكاديميين تونسيين حول إصدارات وبحوث المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط.
ويضم الكتاب عشرة بحوث قدم جلّها في اليوم الدراسي الذي خصص لتكريم المسيرة العلمية للأستاذ هشام جعيط بمناسبة ذكرى عيد ميلاده الثمانين والتي انتظمت في شهر ماي 2016 بتونس. وقد ساهم في كتاب «جدل الهوية والتاريخ» كل من: د إدريس جباري، ود حمادي المسعودي و د فتحي التريكي ود عبد الحميد الفهري ود لطفي بن ميلاد و د لطفي عيسى ود.محمد بن محمد الخراط ود محمد حسن ود محمد الصحبي العلاني ود نبيل خلدون قريسة. أما التصدير فجاء بإمضاء الدكتور مهدي مبروك».
ما بين قراءة التاريخ واستشراف المستقبل، قال هشام جعيط :»نعيش توترا فلسفيا ما بين الهوية والتاريخ وهذا الإشكال ناجم عن صدمة الحداثة. واليوم اعتبر أن الفكر الفلسفي والعلوم الإنسانية عموما سيكون مصيرهما الزوال في العالم بأسره في ظل استفحال التكنولوجيات الحديثة وعصر الآلة والامبريالية الاقتصادية وسلطة الميديا...هناك تخوّف على زوال البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية وحتى في الفيزياء مقابل تطور العلوم البيولوجية وكل ما يخص المناخ. وفي عصر غلبة «الآنية» وانتفاء الحدود والمسافات بين قارات العالم فحتى مسألة الهويات سيتجاوزها الزمن في مستقبل الأيام.»
برحيل هشام جعيط سقطت أبرز أعمدة الفكر والتفكير في تونس، هي خسارة لا تعوض بأي حال من الأحوال وقد غادرنا مفكر كبير فضح دنس السلطة وساءل مقدس الدين.
رحيل المؤرخ والمفكر هشام جعيط: عبقرية العقل في قراءة الدين والسلطة
- بقلم ليلى بورقعة
- 10:11 02/06/2021
- 724 عدد المشاهدات
بعد عمر نذره للتبّحر في المعرفة والنهل من منبع العلم، رحل المثقف الكبير هشام جعيط مورثا الأجيال من بعده تواضع العلماء وصرامة البحث ودقة السؤال.