في المسرحية الغنائية «مرض الهوى» لرضوان الهنودي: استرجاع لقيمة الحب وأغنيات التراث المنسية

في اقتفاء لأثر المسرح الغنائي واسترجاع مجده الضائع وكنزه المفقود، يقترح المخرج رضوان الهنودي على عشاق الفن الرابع في عرضه الجديد «مرض الهوى»

فرجة مغايرة وممتعة ورحلة شيقة مع قصص الهوى والجوى... بعد الكوميديا الموسيقية «عشقة وحكايات» والعرض الغنائي «نوّار اللوز» يواصل رضوان الهنودي في «مرض الهوى» التنقيب في التراث الموسيقي عن متون مسرحية ونصوص منسية تشبهنا وتعبّر عنّا لأنها تنتمي إلى ثقافتنا وتوّثق لهويتنا...
في إطار تظاهرة «أيام مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف» في العاصمة، احتضنت قاعة الفن الرابع عرضا شيّقا لمسرحية «مرض الهوى» إدارة عماد المديوني، نص وإخراج رضوان الهنودي وأداء كل منذر جبابلي والجمعي العماري ولبنى مقري ورحمة الكافي وخميس بوغانمي وصابر جبوري وحسام علوي وشيماء هنودي وحمزة حجري.

الحب تطهير في زمن الضغائن
على إيقاع قرع الطبول إعلانا عن الحب لا الحرب، دعانا أبطال «مرض الهوى» منذ بداية العرض إلى الإنصات جيدا إلى حكاية من حكايات العشق والهيام واستخلاص العبرة والموعظة من المروية الغنائية. فكان منهم النداء وكانت منا الاستجابة. كيف لا ؟ وقد وشت عوالم المسرحية بفرجة مختلفة وغير معتادة على أركاحنا التي يحدث أن تتشابه حد السأم. كان كل شيئ مختلفا في «مرض الهوى» من أزياء وحوار وغناء... وكأننا بالمخرج يعيدنا إلى قصص الحب الخالدة في أشعار الجاهلية والبادية ويثير فينا الحنين إلى عهود آفلة كانت فيها قيمة الحب فيها الأعلى مرتبة وكان فيها الإنسان العاشق الأنقى.
لقد طوّع المخرج رضوان الهنودي التراث الغنائي في جهة الكاف وما اشتهر منه من أغنيات لتكون عصب مسرحيته الجديدة والنواة التي يحوم حولها النص وبها يتطور البناء الدرامي للعرض. في شكل صرخات لوعة وألم أو ابتهالات حب ورجاء، رافقت الأغاني الأحداث من بدايتها إلى نهايتها ولازمت الشخصيات في حلها وترحالها ... لتقص على مسامعنا بأسلوب مشوّق قصة حاكم طاغية عشق فتاة من البادية شاهدها عند النبع الصافي تترنم بصوت جميل. فأتى أهلها خاطبا ودها ويدها إلا أنهم رفضوا مصاهرة الرجل الظالم والمستبد حتى ولو كان على سدة الحكم جالسا، وخيّروا الارتحال تحت جنح الظلام بعيدا عن بطش الحاكم الجبّار. أمام هجر الحبيبة للديار لم يرض الحاكم العاشق بالبكاء على الأطلال بل تخلى عن الجاه والعرش والمال ... ومضى في الصحراء يلاحق أثر «الرّيم» الشارد.
لقد اختار المخرج رضوان الهنودي نهاية وردية لمسرحيته «مرض الهوى» فشفى العاشقين من حرقة الفراق وجمع بينهما بعد الجفاء بمباركة الأهل والخلاّن.
إن أعاد صاحب «مرض الهوى» للحب مكانته الحقيقية والأزلية بما هو الشعور الأسمى والأبقى، فقد بعث من وراء ذلك برسائل ومقاصد ليقول بأن الحب تطهير من كل الأدران. فمتى يتمكّن الحب من نفوس البشر سواء كانوا حكاما أو محكومين فلا شك أن العالم سيكون أرقى والحياة في كل الأوطان أجمل.

مشهدية غنائية حبلى بالدلالات والرمزية
على ركح «مرض الهوى» صدحت الأصوات قوية القرار بموروث «الكاف العالية»، وهبّت «النسمة الكافية» لتداعب حواس وإحساس الجمهور الذي تفاعل بتأثر كبير مع عرض نجح في تقديم المختلف ومصالحة المواطن مع تراثه الثري والمنسي. لقد كان الركح صاخبا
بحركة درامية وإيقاع متغير ومشهدية متلونة تتراوح بين فصول من الحزن والفرح، الخوف والأمان، الشر والخير...

إن كانت «مرض الهوى» مسرحية غنائية بالأساس فإن هذا لا ينقص من قيمة الحوار المنطوق بين الشخصيات والذي جاءت كتابته بلغة جميلة وموزونة أضفت حيوية درامية على العرض. كما كان النص غنيا بدلالاته الاجتماعية والجغرافية والنفسية... ومتضمنا لإسقاطات مباشرة وغير المباشرة على غرار ظلم الحكام في كل عصر وأوان وسعيهم إلى ملء خزائنهم من الضرائب المجحفة التي يقع تسليطها على كاهل الشعب المسكين.

إلى جانب الغناء، كان الرقص عنصرا بارزا في «مرض الهوى» طبع المسرحية ببعد استعراضي وجمالي... فأضفت اللوحات الراقصة سيما تلك التي أبدعها الشاب حمزة حجري مشهدية رائعة استحوذت على متابعة الجمهور.
وقد كان اختيار الأزياء أو ملابس الممثلين موفقا ومنسجما مع روح العرض وطبيعة المسرحية. فقد تم إكساء أبطال «مرض الهوى» بثياب البدو الرحل الذين يعيشون في بيئة صحراوية دلت عليها المتممات الركحية من خيمة وأوتاد وعادات يومية لأهل «النجع» ... فكان الديكور جزءا من اللغة المسرحية التي تضج بالدلالات المكانية والزمانية والعاطفية في زمن مخصوص وموقع جغرافي محدّد.

إن مسرحية «مرض الهوى» استدعت حضور ممثلين من طراز خاص وأكثر شمولية في الأدوار: أداء وغناء ورقص... وقد برع كل ممثل من موقعه في إقناع الجمهور وشد حواسه واستدرار عواطفه...
وراء مشاهد مسرحية «مرض الهوى» كان يقف مخرج بارع أجاد هندسة المشاهد والتنسيق بين كل العناصر من حوار وغناء ولوحات راقصة... فالتقت كل عناصر العمل ضمن كتلة واحدة ووحدة متكاملة انصهرت في عمق الحكاية الشيّقة.
إن كانت «مرض الهوى» مسرحية غنائية بامتياز فإنها لم تسعى إلى تقليد المسرح «الرحباني» ولا السير على منوال المسرح الأوبرالي بل ابتكرت لنفسها تركيبة خاصة بها وابتدعت أسلوبا لا يشبه غيرها... والأهم أنها نذرت ركحها لإحياء الذاكرة الموسيقية المنسية ضمن توليفة مسرحية حية تنتصر إلى المسرح الغنائي المتجدد.

هل تجد «مرض الهوى» حظها في المهرجانات الصيفية؟
إنّ ما تتوفر عليه مسرحية «مرض الهوى» من مقومات فنون الاستعراض ومن مشهدية مبهرة ومغايرة ومن دعائم الفرجة التي تخاطب كل الحواس يؤهلها عن استحقاق للبرمجة على المسارح الكبرى والمهرجانات الصيفية ليس فقط بصفتها مسرحية غنائية قادرة على شد الجمهور بل لأنها تستدعي الهوية الموسيقية والخصوصية الفنية في ربوع الكاف في الوقت الذي نحتاج فيه إلى استرجاع تراثنا اللامادي غي عصر العولمة المتوحشة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115