كتاب الأحد: «اختفاء زبراط» لعبد الجبار المدوري تغيّر النظام السياسي وبقيت سياسات التهميش

الكتابة وجع أزلي لا يزول، الكتابة حالة إلهام تسكن الكاتب وتجعله يرى المستقبل احيانا ويعايش واقعا ربما لم يحن بعد، الكتابة تشبه لحظات الولادة موجعة ومخيفة

ولا نعرف هل سيكون الوليد سليما أم معوّقا وكتب عبد الجبار المدوري جميعها كانت مغلفة بالوجع مسكون بالآم التونسيين وأحلام البسطاء قدمها الكاتب بأسلوبه الممتع والساخر.

واحتفى الكاتب بطبعة ثانية لكتاب «اختفاء زبراط»، طبعة بطعم الحرية نشرت علانية دون خوف ووزعت على المكتبات ويمكن اقتناؤها عكس الطبعة الأولى فبعض القصص الموجودة في «اختفاء زبراط» سبق وان نشرت في كتاب بعنوان «العودة» عام 2004 وتم توزيع «الكرّاس» انذاك من طرف الكاتب بطريقة سرية اصبحت تعرف بعد ذلك بطريقة «النشر الفلاّق» وهي نفس الطريقة التي أصدر بها الكاتب كلّ مؤلفاته في زمن الدكتاتورية كما جاء في كلمة الناشر و«اختفاء زبراط» عن منشورات دار الفينيق.

لازال الشباب يدفع ثمن حب الوطن
«اختفاء زبراط» مجموعة قصصية تضم اقاصيص قديمة زمنية نشرت في الطبعة الاولى في 2004 واخرى كتبت حديثا لتنشر في الطبعة الثانية، في الكتاب اقاصيص «العودة» التي تسلط الضوء على شاب مشاكس يعاند النظام فيتعرض للسجن لعامين وبمجرد خروجه يزور والدته عوض الالتزام بالعقوبة الادارية غير القانونية، فتلامس كلمات الكاتب وجع الامّ في بحثها عن «قفة» ابنها وثمن التنقل لزيارته وفي الوقت ذاته يجسد مدى وجع الطالب والظلم الذي يتعرض له فقط لانه عاند السلطة وخالفها، الاقصوصة كتبت قبل الثورة وهي صورة للعديد من الطلبة الذين دفعوا احلامهم ثمنا لمبادئهم وصورة لوجع الكثير من الشباب المتميز في الدراسة الذي وجد نفسه خلف القضبان فقط لانّ له موقف او رأي خالف به السلطة السياسية في العهد البورقيبي وعهد بن علي، والموقف جريمته السجن وخوف الجيران ايضا « اطل الجيران من الابواب ومن النوافذ ومن بين فجوات الشجر، في عيونهم رغبة مكبوتة للترحيب والتهنئة، في السنوات الاخيرة صار التعاطف مع المساجين السياسيين مجلبة للمشاكل ويعرض صاحبه لمساءلات البوليس».
أقصوصة ثانية كتبت بعد الثورة وتتناول نفس الموضوع اي السجن ووجعه «رسالة من تحت التراب» في هذه الأقصوصة يجسد الكاتب بأسلوبه الموجع العلاقة السيئة بين المواطن ورجال الدولة ممثلين في «الشرطة» ففي الأقصوصة يدفع الشاب ثمانية اعوام من عمره في السجن بعد احتراق والدته أمام عينيه لانّ الشرطة هددت بهدم بيتها الذي يأويها «فهددت بإشعال النار في نفسها، في البداية تراجع الأعوان لكن قائد المجموعة الأمنية اصرّ على إخراجها ويقال انه رمى اليها ولاعة مستخفا بتهديداتها قائلا : هيا أشعلي النار واحترقي، نحن لا تهمنا تهديداتك، حكاية الانتحار حرقا أصبحت موضة».

في كلتا الأقصوصتين يقترب المدوري من أحلام الشباب يحاول بسطها الى القارئ بكل صدق وكأنه يلامس وجع شخصي دفين وهو الذي دفع من سنوات عمره في التخفي ثمّ السجن لان مواقفه خالفت السلطة وأرادت الانحياز للإنسان ولقيم الحرية في زمن الدكتاتورية.

المرأة وطن مصغّر
هنّ الكادحات هنّ زارعات الامل رغم استبداد السلطة وقسوة الواقع، هنّ اللواتي انهمكن في توفير متطلبات البيت رغم قلة ذات اليد، هنّ القويات اللواتي يقفن شامخات ليواجهن الفقر والخوف، في «اختفاء زبراط» المراة رغم الوجع هي سيدة الموقف والفعل هي «الصنديدة» و «اخت الرجال» ، المراة فاعل في الاحداث رغم قسوة الظروف و استبداد النظام السياسي، نجدها في اقصوصة «العودة» امّا لطالب متمرّد لم يخف النظام وزبانيته واختا لفلاق لم يهب الاستعمار الفرنسي وجبروته «مازالت الام تحتفظ بصورته وهو يترك الدوار والاهل ممتطيا جواده وبندقيته على كتفه»

في «العودة» الام تعرف انّ ابنها ملتزم بقضايا الوطن ويكره الظلم كذلك كان خاله، في الاقصوصة نجد المراة مساند للحق ولقضايا الوطن، لم تخف السلطة وتنكرت لتساعد الفلاقة «مازالت تتذكر كيف كانت تتنكر في هياة راع او فلاح او تتظاهر بجلب الماء او الحطب لتلقاه او تلقى رفاقه حسب مواعيد سرية، تذهب اليهم محملة بالخبز الساخن واللحم الخاثر والعسل والتمر» وبعد الاستقلال ووجود نظام جديد لم تهب شراسته وباعت اغنامها لتواصل زيارة ابنها في السجن لانها تعرف جيدا ان لها ابن «كاسح الراس، صعب المراس، رافضا للذل والمهانة وعازما على مواصلة النضال» فاختارت هي اخرى ان تكون سند للمقاومة الدائمة.
المراة دوما تنحاز للوطن ضدّ اعدائه ايا كانت صفاتهم، وفي اقصوصة «النزيف» يعود الكاتب بالذاكرة إلى «زعرة» التونسية الحرة تلك المرأة الريفية التي ساعدت الفلاقة كثيرا اثناء احتمائهم بالجبل لايمانها انّهم على حقّ وان مقاومة المستعمر وطرده واجب كل تونسي رجلا كان او امراة.

تغيّر النظام والظلم واحد
تكشف اقاصيص عبد الجبار المدوري عن اوجه للواقع تعاند فيها ارادة الحياة امواج الظلام، لذلك جاءت في لغة لا تخلو من شاعرية ورقة مع قوة المعنى ونبل القضية هكذا تحدث رضا البركاتي عن كتابات عبد الجبار المدوري، واختفاء زبراط جزء من كلّ متصل تماما بأفكار الكاتب ودفاعه الدائم عن الطبقة الشغيلة وانحيازه للمهمشين في هذا الوطن.
في «قبور الثلج» يتحدث عن معاناة سكان الشمال الغربي شتاء، المعاناة من البرد وتهاطل الأمطار أمام بنية تحتية شبه منعدمة قديمة متجددة فلازال التونسيين من سكان طبرقة والكاف وعين دراهم وعين سلطان يشكون قسوة الشتاء وقطع الطريق بسبب سوء الحالة الجوية والخوف على ابنائهم التلاميذ من فيضان الاودية «لن انسى ذلك اليوم الذي عدت فيه من المعهد مبللا، يوم ممطر وبارد، تجمدت فيه التربة وطغا الصقيع وغطّى الثلج الأرض وأحالها إلى بساط مبرقش بسواد الليل» ولئن استطاعت شخصية المدوري العودة إلى البيت في جوّ بارد ومثلج فمها القضقاضي على سبيل المثال لم تستطع العودة وجرفتها المياه ورغم تغيّر النظام السياسي والوزراء والمسؤولين لازالت البنية التحتية محافظة على تهالكها.

وفي اقصوصة «اختفاء زبراط» المكتوبة منذ 2012 يقترب الكاتب الى «الزبراطة» ويعايشهم ويحاول أن يكشف طريقة تفكيرهم واختيارهم الحياة القاسية والمميتة، الاقصوصة كتبت منذ سنوات لكنها تنقل ما يعيشه لكثيرون في 2020 و ما أحداث «القوارص» في القيروان لتي راح ضحيتها عدد من الشباب إلا دليل على تواصل سياسات التفقير والتهميش في تونس ما بعد الثورة، الثورة التي رفعت فيها شعارات الحرية والكرامة والتشغيل أصبحت اليوم مبرزة لفنون الموت في هذا الوطن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115