ما لم تَقُلْهُ هند الزّياديّ في رواية «غالية»: لَنْ نَعُودَ أبَدًا كما كُنَّا

بقلم: مزار بن حسن
لم أكُنْ أعرِفُ الكاتبة «هند الزّيادي» إلّا كما يعرِفُ المعرّيّ ابنَ القارِح، أيْ خَبَرًا وكِتابَةً، إلى أنْ جاءَ معرضُ الكتاب في أفريل

من السّنة الفارطة، فسَنحتْ فُرصَةُ اللّقاء والتّحادُثِ. كانت تجلسُ في جناح «دار زينب» لتوقيع مجموعتها القصصيّة: «غرفة الأكاذيب». عبَّرْتُ لها أوّلا عن فَرْطِ إعجابِي بطرائِقِ سَرْدِهَا وإتقانِها المُحكَمِ لنَسِيجِ الكتابة الرِّوائِيّة في روايتِهَا: «الصّمت». فاِمتِلاكُ ناصِية الحكاية والقدرة على تصرِيفِ الأحداثِ وإرْسالِها وتنظيمِ خُيُوطِهَا بسلاسةٍ واِنسِجامٍ، إنّما هي أمورٌ لا تتأتَّى إلّا لِقلّةٍ مِنَ البَشَرِ من السَّحَرَةِ والكَهنَةِ والشُّعراء والأنبياء والقُصَّاصِ و»الفداويّة» والزُّعماء القوميّين وغيرِهم مِمَّنْ يقودونَ الجماهيرَ والشُّعُوبَ بِما أُوتُوا مِنْ مَجامِعِ الكَلِمِ وسِحرِ البَيانِ والعِبارةِ الفاتِنة والبلاغةِ الآسِرة.

مملكة السّرد:
إنّ ناصِيةَ السّردِ هي أكبرُ سُلطةٍ عرَفَها تاريخُ البشَرِ، فمن اِمتلَكَها بلَغَ أسبابَ الأرضِ والسَّماءِ، وصَغُرَتْ في عينِهِ عظائِمُ الأشياء وكبائِرُ الأمور. تلك السُّلطةُ اللّسانيّةُ التي اِمتلكَتها شَهْرَزادُ في «ألف ليلة وليلة»، فاِستطاعتْ أنْ تُرَوِّضَ بها سُلطانًا سياسيًّا ضَارِيًا ومُتوحِّشًا مثل شهريار الذي تحوّلَ مِنْ سَجَّانٍ يسفِكُ دِماءَ النِّساءِ والمُستضعفين إلى «سَجِينٍ للحكايةِ»، تُعذِّبُهُ شهرزادُ بما تيسَّرَ لها من حبائِلِ السَّرْدِ التي لا تنتهِي. هي حبائِلُ تُحكِمُ رَبْطَهَا و»تَنفُثُ سِحْرًا في عُقَدِها»، ثمّ تُحوِّلُهَا مَشانِقَ لِتَشْنُقَهُ بها كلَّ يومٍ، أو سِيَاطًا تنهالُ على جسمِهِ وعقلِهِ باِستِمرارٍ وهو يَتلَذَّذُ ويَستَزِيدُ.

شهرزاد الحابِكة لخيوط السّرد تظهرُ بشكلٍ جليٍّ في شخصيّة «نسريّة» أخت «غالية» الكُبرَى في رواية «غالية أو الرّجل الذي سكَنَ البُرجَ مع ماتريوشكا» الصّادرة مُؤخَّرًا عن دار زينب للنّشر(1). تصفُ غالية أُختَها نسريّة بأنّها «كانتْ بارِعَةً في القَصِّ، وتُجيدُ اِستِحضارَ الخُرافاتِ وحِكاياتِ الأرواحِ وبلادِ الجان. وتُؤدّي خُرافاتِها بقُدرةٍ تَمثيلِيَّةٍ عالِيةٍ، فتنفتِحُ أفواهُ البناتِ دَهشَةً، وتنفجِرُ الضّحكاتُ وتتعالَى الشَّهقاتُ تَفَاعُلا مع الأحداثِ المَحكِيَّة»(ص 34). وقد ساهمتْ قُدرتُها تلك في ترويضِ سُلطةِ «دادة الزّينة» زوجةِ عمِّهنَ «الجيلاني» التي كانت غَلِيظَةَ القَلبِ لا ترحَمُ يُتْمَهُنَّ بِفِقدَانِ أبِيهِنَّ. لكنَّ هذا التّرويضَ لم يَكُنْ كافِيًا على ما يَبْدُو للتّخلُّصِ النِّهائِيِّ من سُلطةِ زوجةِ العَمّ وكابُوسِ ظُلمِهَا واِستِغلالِهَا واِستِعبادِهَا لهُنَّ. والدّليلُ على ذلك أنّ نسريّةَ رَضَختْ في نهاية المطاف لِسُلطةِ دادة زينة ورَضِيَتْ بالرّجُلِ الذي اِقترحتْهُ لها، بل فَرَضَتهُ عليها بِمَكرِهَا ودَهائِهَا للزّواجِ منه، وهو ابنُ أُختِها.

لم تَشَأْ نسريّةُ في الرّوايةِ أن تكونَ مثلَ شهرزاد ألف ليلة وليلة في إتقانِهَا للسّردِ وتوظيفِهِ لِصالِحِها، بل اِختارتْ أنْ تُسَلِّمَ المُهمَّةَ مِنْ أعلَى جبل «سيدي عبد الرّحمان» إلى «خالتي بشيرة» زوجة «محمّد السّايس» التي أشبعتْ النِّساءَ قصصا ورواياتٍ عن أخبارِ الحرب العالميّة الثّانية وما خَلَّفتْهُ من جُروحٍ في ذاكرة «تاكلسة» و»سيدي عيسى». لقد آثرَتْ نسريّةُ أنْ تكونَ مثل «رَيْطَةَ بنت سعدٍ التّيْميّ»، تلك المرأةُ القُرَشِيَّةُ الخَرْقاءُ التي تَغزِلُ الصُّوفَ في النّهارِ ثمّ تَنقُضُ ما غَزَلَتْهُ في اللّيل، وهي المقصودةُ في الآية القرآنيّة: (وَلَا تَكُونُوا كَالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) (النّحل: 92). وقدْ رُويَ أنّها كانتْ مَجنونَةً، و»أنّها شَكَتْ جُنُونَها إلى رَسولِ الله (ص) وطلبتْ أنْ يَدعُوَ لها بالمُعافاة فقال لها: إن شِئتِ دَعوْتِ فعافاكِ اللهُ تعالى، وإن شئتِ صبرتِ واحتسبتِ ولكِ الجنّة. فاختارت الصّبرَ والجنّةَ»(2). لقد سكتتْ نسريّةُ إذن عن «الكلامِ المُباح»، ونقَضَتْ سَرْدَها وحِكاياتِهَا واِختارَتْ الصّبرَ والاِحتِسَابَ والصَّمتَ الأبَدِيَّ. لقد قَوَّضَتْ مملكةَ السّرْدِ التي شيَّدَتْها بِيَدِهَا، واِستسلمتْ صَاغِرَةً صامِتَةً لِمملكةِ زوجة العمّ ثمَّ لِمملكةِ الزّوج. فما سِرُّ هذا الصّمتِ المُفاجِئِ؟

تراجيديا الصّمت:
دار بيني وبين هندٍ أثناءَ لقاءِ معرض الكتابِ حوارٌ مُطَوَّلٌ لم أعُدْ أذكُرُ جَميعَ تفاصيلِهِ، لكنّي أتذكّرُ جَيِّدًا موضوعَهُ. فقد لاحَظتُ لها أنّ اِختيارَهَا كلمةَ «سكيزوفرينيا» عنوانًا ثانِيًا لرواية «الصّمت» لم يكُنْ مُوَفَّقًا من وجهةِ نَظَرِي، رغم معاناة بطلة الرّواية من الانفصام. فالشّخصيّة الرّئيسيّة في هذه الرّواية طبيبة نفسيّة اِختارت الصّمتَ بعد أن اِكتشفتْ حقيقةَ طُفولتِهَا شيئا فشيئا من خلالِ مُصاحبتِهَا لمريضةٍ نفسيّةٍ ومُلازَمَتِهَا لها من أجلِ مُساعدَتِهَا على إخراجِهَا مِنْ أزمَتِهَا. فتبيّنَ لها بعد طُولِ المُعاينةِ والبحث والنّبشِ في قبورِ ذكرياتِ طُفولتِهِمَا أنَّهما قد تعرَّضَتَا إلى اِعتِداءاتٍ جنسيّةٍ مُتكرِّرَةٍ داخلَ العائلة، فيما يُمكن تسمِيَتُهُ بِـ»زنا المَحارم» (Inceste). لم يَكُنْ هذا الاكتشافُ مُفاجِئًا كما كان يحدُثُ في التّراجيديّات الكلاسيكيّة منذ العهد اليونانيّ البعيد إلى القرون الوسطَى، إذْ يكتشفُ «أوديب» فجأةً أنّه قاتِلُ أبيهِ، وأنّ زوجتهُ التي أنجبَ منها أبناءَهُ هي في الحقيقة أُمُّهُ. أو عندما يكتشفُ «عُطيل» في مسرحيّة «شكسبير» براءَةَ زوجتِه بعد أن قتَلَها مُتَّهِمًا إيّاها بالخيانةِ، ويكتشفُ أنَّه كانَ ضحيّةَ صديقِهِ «دييجو» الذي كادَ له المَكيدَةَ، ونجَحَ في إقناعِهِ بأنّ «ديدمونة» قد خانتْهُ، وهي التي ضَحَّتْ بِعائِلتِهَا في سبيلِ أنْ تتزوَّجَهُ.

إنّ اكتِشافَ الطّبيبةِ للحقيقةِ المُرَّة كانَ تدريجِيًّا ومُتدَاعِيًا، وهو ما جعلَها تَمُرُّ إلى مرحلةِ تراجيديا الصّمت. تلك المرحلة التي تبدَأ لحظَةَ المعرفة ولحظَةَ الاكتشاف التّراجيديّ للحقيقة القاتلة، أو ما سَمّاه «ادوارد سعيد» بِـ»اِنعكاس الأوضاع» (Peripélia)، وهي لحظةُ إعادةِ تأسيسِ الكونِ والمستقبل في ضوء الحقيقة الجديدة المُكتَشَفة، بِاعتبارِ أنَّ هذا الاكتشافَ لا يعني إلّا شيئا واحِدًا وهو القطيعة التّامّة مع الماضي: «ألّا نَعُودَ أبَدًا كما كُنَّا»(3). لكن هل يُمكننا فعلا أن نتجاوزَ أوضاعَنا التّراجيديّة ونُشْفَى مِنْ ماضِينَا؟

هذا ما حاولَ «الرّجلُ الذي سَكَنَ البُرجَ مع ماتريوشكا» أن يفعلَه في رواية «غالية». هو صحفيّ اِستقصائِيٌّ فاشِلٌ في عملِه وحياتِه الخاصّة اِتَّخَذَ مِنْ بُرْجٍ مَهجُورٍ في هنشير العيون بتاكلسة أرضِ أجدادِهِ صَوْمَعَةً يتأمَّلُ فيها ماضِيه بعدَ أنْ لَفَظَتْهُ الأيّامُ وأَفْرَدَتْهُ «إفرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ». لقد اِعتقدَ واهِمًا طيلةَ حياتِه أنّه بإمكانِهِ أن يفضَحَ الفسادَ والفاسِدِينَ في تونسَ، وأنْ يستأصِلَ عُرُوقَهُمْ مِنْ أرضِهَا. لكنّه نَسِيَ أنْ يَبْدَأَ بِفَسادِ نَفسِهِ. فقد اِهتَمَّ بتتبُّعِ أكبرِ ملفَّاتِ الفسادِ قبل الثّورة وبعدَها، فكانتِ النّتيجةُ أنْ أخفَقَ في كشفِ الحقيقةِ وأهمَلَ عائِلَتَهُ وتركَها تُواجِهُ مَصِيرَهَا بمُفرَدِهَا. يقولُ في رسالةٍ له من رسائِلِهِ التي يبعثُ بها يَومِيًّا إلى اِبنِهِ الذي لا يقرَؤُهَا ولا يرُدُّ عليها: «المكانُ هنا هادِئٌ بعيدٌ عن اِضطِراباتِ تُونِسَ ومَشَاكِلِهَا وحِيتَانِها. تبدو

الأرضُ هنا نائمةً. لا شيءَ يَجرِي على سَطْحِهَا، والوقتُ يَمُرُّ بِبُطءٍ. لعلَّ هذا ما أحتاجُهُ في هذا العُمرِ وفي هذه المرحلةِ مِنْ حَيَاتِي. اِنتهَى زَمَنُ الصِّرَاعاتِ وزَمَنُ الصِّدَاماتِ مع الفاسِدِينَ والمُرْتَشِينَ والثَّورَجِيِّينَ. لقد اِنهزَمتُ. أعترِفُ لك بذلك. فشِلتُ في أهَمِّ مِلَفٍّ في حياتِي، ودَفعتُ ثَمنَ فَشَلِي غَالِيًا. لستُ مُتأكِّدًا أنّني اِخترتُ الخُرُوجَ مِن الصّحيفةِ. ولا أعرفُ هل كنتُ قد طُرِدْتُ. لكنّني مُتأكِّدٌ أنّهم ضَايَقُونِي وضَيَّقُوا عَلَيَّ إلى أن قَدَّمْتُ اِستِقَالَتِي. خَطُّهُمْ التّحرِيرِيُّ الجَدِيدُ لا يَحتاجُ إلى رجلٍ بمواصفاتِي. صِرتُ بضاعةً فاسِدَةً تجاوزتْ تارِيخَ صَلاحِيَّتِهَا. لا أحدَ يُحبُّ أنْ يتكلَّمَ عن الحقيقة» (ص 22 - 23).
كان البُرجُ في القديم قَصْرًا منيفًا عالِيًا يسكُنهُ شيخُ المشايخ «يوسف العفيف الدّخليّ»، ويُشرِفُ مِنْ خِلالِهِ على ضِيَاعِهِ وأراضيهِ ومواشِيهِ وخَمّاسَتِهِ وأُجرائِهِ وخَدَمِهِ الذين لا يكادُ يُحصِيهُمْ. «غالية» وَحدَهَا تعرِفُ قِصَّةَ هذا البرجِ وتَارِيخَهُ، فهي الشّاهِدَةُ الوَحيدةُ التي يُمكِنُهَا أنْ تَرْوِيَ لِرجُلِ «الماتريوشكا» سِرَّ هذا القصرِ وما تختزِنُهُ جُدرانُهُ المُتداعِيَةُ من كلامٍ لم يُقَلْ

بَعدُ. غالية وحدَهَا تعرِفُ حقيقةَ العظامِ التي عثرَ عليها الصّحفيّ عندما كان يحفرُ لإنشاءِ مِصطبةٍ يُقضّي فوقها قيلُولَتَهُ مُتأمِّلا ومُتوحِّدًا خارجَ الزّمان والمكان. لقد أخرجتْهُ هذه الحادِثةُ مِنْ صَمْتِهِ وتَرَهُّبِهِ الذي اِعتقدَ أنّه لن يَخرُجَ منه بعد اِختيارِهِ تمضيةَ ما تبَقَّى من العُمرِ في هذا المكان. عادَتْ إليه رغبتُهُ القديمةُ في اِستقصاءِ الحقيقة، بل تحوّلَ إلى رجلٍ ثرثارٍ يهرُبُ من الصّمتِ «هرَبَ حشرةٍ حقيرةٍ من مُبِيدٍ يُرَشُّ فوقَهَا» (ص 93) وينتقلُ من مكانٍ إلى آخرَ ومن قريةٍ إلى أخرَى لِيبحثَ عن كِبارِ السّنّ الذين يُمكنُ أن يُفيدُوه بمعلومةٍ، لكنّه يصطدم في كلّ مرّةٍ بأنّ شهودَ ذلك العصرِ إمّا مَاتُوا أو أُصيبُوا بالزّهايمر أو تظاهرُوا بالنّسيان. حتّى غالية التي قابلَهَا في آخرِ أيّامِ حياتِهَا لَمْ تَشَأْ أن تُطيلَ معه الحديثَ، رغم معرِفتِها لكلِّ شيْءٍ. واِكتفَتْ بتسليمهِ أوراقًا قائلةً له: «لِكَيْ تفهَمَ ماجَرَى لا بدّ أن أعودَ بك إلى ذلك اليوم الذي بدأَ فيه كُلُّ ما تَنبُشُهُ من تاريخ» (ص 11). إنّنا إذا اِكتشفنا الحقيقة «فلنْ نَعُودَ أبدًا كما كُنّا».

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115