التحوّل الرقمي ووسائل الإعلام: معركة وجود أم ثورة حتمية ؟

إذا كان الإعلام هو «التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها في ذات الوقت» فمن أهم رهاناته أن يواكب رياح التغيي

ر دون أن يفقد توازنه وأن يجدّد خطابه دون أن تضيع الحقيقة على لسانه... وفي ظل التحوّلات الرقمية السريعة، يرسم البعض رؤية إيجابية لأداء الإعلام في استثمار للتكنولوجيا من أجل تقديم الأفضل... وفي المقابل يرسل البعض الآخر بلاغ نعي إلى وسائل الإعلام خشية أن تفترسها المنصات الرقمية وتطيح بها بالضربة القاضية. فإلي أي مدى يمكن أن تسحب منصات «الإعلام الجديد» سلطة المعلومة من وسائل الإعلامَ التقليدية؟ وهل يمكن أن يزيح المواطن الصحفي دور الصحفي المحترف؟ وكيف يمكن أن تكون التحوّلات الرقمية سندا لوسائل الإعلام ولا تكون خصما لها؟
كثيرا ما يجد الإعلام نفسه مجبرا لا مخيّرا على مواكبة المستجدات التقنية والتحولات الرقمية من حوله حتى يبقى في قلب الأحداث ولا يكون على الهامش.وتسعى مختلف وسائل الإعلام من تلفازات وإذاعات وصحف ورقية إلى ابتكار أساليب حديثة تخطب ودّ الجمهور والقارئ وتسعى إلى مدّه بالمعلومة في كل حين من خلال بوابات الإنترنات وتطبيقات الهاتف الجوال وفتح حسابات رسمية على شبكات التواصل الاجتماعي...

وسائل الإعلام لا تموت بل تتجدّد
بعيدا عن ندب الحظ ونعي العصر الذهبي لوسائل الإعلام حيث كانت وحدها تحتكر المعلومات والأخبار... كان لابد أن ينطلق التغيير من الإعلام نفسه حتى يواكب ثورة رقمية تتقدّم إلى الأمام ولا تلتف إلى الوراء ! وأمام خيارين لا ثالث لهما، كان لابد من الحسم. فإما الجلوس على ربوة المتفرج حتى يأتي الطوفان على الأخضر واليابس، وإما ارتداء ثوب المحارب وكسب المعركة من أجل الحفاظ على الجمهور. وقد نجحت وسائل الإعلام التي عقدت معاهدة صداقة مع التحوّل الرقمي في البقاء والاستمرار، بعد أن جدّدت في أشكالها ونوّعت في مضامينها وطورت في محتواها... لتكون في خدمة الجمهور بمرونة وسهولة مواكبا للتحولات الرقمية السريعة. وفي هذا الإطار أصبحت وسيلة الإعلام الواحدة جمعا في صيغة المفرد في ظل ما يسمّى بـ «وسائل الإعلام المدمجة» حيث كثيرا ما يحتوي الموقع الإلكتروني للوسيلة الإعلامية التي تسعى إلى مسك تلابيب الثورة الرقمية على مقالات مكتوبة وفيديوهات سمعية وبصرية ورسوم بيانية...
ويبرز مؤشر الإعلام الرقمي لسنة 2018 وهو تقرير يوفر معلومات مرجعية عن أحدث التوجهات في مجالي الإعلام والنشر الرقمي في العالم العربي أن شبكتي التواصل الاجتماعي «فايس بوك» و»توتير» تحتلان الصدارة في تونس بما هي منصات للبوابات الإعلامية. وهو ما يعكس قدرة وسائل الإعلام على اكتساح شبكات التواصل الاجتماعي وإمكانية مصافحة جمهور جديد سيما من الشباب الذي يستمد أخباره ويعدّل ساعته على توقيت شاشة حاسوبه أو هاتفه... في عصر الثورة الرقمية.

صحافة المواطن لا تهدّد صحافة الاحتراف
من رحم شبكات التواصل الاجتماعي التي كانت خارج سيطرة السلطة وعصيّة عن عين الرقيب، تغذّى شريان الثورات العربية وترعرعت شرارتها واتسع مداها ليبلغ وهجها العالم بأسره. وليس من الغريب أن تولد ظاهرة ما يسمى بـ»الصحفي المواطن» الذي ساهم بفضل التكنولوجيا وأجهزة الاتصال الحديثة في نقل المعلومة ونشر الخبر في كل مكان وزمان، من وراء الحجب ومناطق المجهول والممنوع. فاليوم أصبح بث المعلومة متاحا في إطار «دمقرطة» حرية التعبير ولم تعد حكرا على أهل الاختصاص ومحامل وسائل الإعلام التقليدية. ولئن كان الصحفي المواطن في أحيان كثيرة عونا لوسائل الإعلام في تمرير معلومة تستحق الاهتمام، فإن حدود صحافة المواطن تنتهي عند دور صحافة الاحتراف في التثبت والتدقيق والتمحيص... وفقا للمعايير الصحفية وأخلاقيات المهنة.

كثيرا ما ترتدي وسائل التواصل الاجتماعي رداء الإعلام، لتتحوّل إلى منصة تنشر الأخبار والمعلومات وفقا لما يصفه البعض بـ الإعلام الجديد « أو الإعلام البديل»، ولكن يبقى هنا معيار الثقة هو الخصم والحكم بينها وبين وسائل الإعلام الرسمية أو التقليدية. وفي هذا السياق يقدّم الخبير في علوم الإعلام والاتصال الصادق الحمامي في مقال له بجريدة «المغرب»  بعنوان : «هل يمكن أن تكون الصحافة التونسية بديلا عن الفايسبوك ؟» القراءة التالية: «يحتاج المجتمع التونسي، إذا قبلنا بفكرة أنه يطمح إلى أن يكون مجتمعا ديمقراطيا، إلى الصحافة باعتبارها مؤسسة من مؤسسات الديمقراطية ذات وظيفة مخصوصة توفر للتونسيين أخبارا موثوقا بها يتابعون بفضلها أحداث الحياة السياسية ومضامين تفسيرية لفهم هذه الأحداث ويفهمون بها عالمهم الاجتماعي. ويبدو جليا أن الفايسبوك لا يمكن أن يقوم بالأدوار التي تقوم بها الميديا التقليدية والصحافة المهنية خاصة في مجتمع كالمجتمع التونسي الذي تزدهر فيه الصراعات الإيديولوجية وتنخرط فيه بعض مؤسسات الميديا وحتى الصحفيين في الاستقطاب السياسي وحيث يصدق المواطنون ما يشاهدونه ويقرؤونه في الفايسبوك من معلومات بلا مصدر موثوق به.إن هذه الأخبار الموثوق بها والمضامين التفسيرية لا تأتي مما يسمّى صحافة المواطن ولا يمكن أن ينتجها «نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي» ذلك لأن المضامين الإخبارية والتفسيرية (تقارير، تحقيقات، استقصاء...) لها تكلفة اقتصادية عالية في مستوى البحث عنها وجمعها ومعالجتها ونشرها وتوزيعها ولأن الأخبار كذلك ليست المعلومات (البعض بمن في ذلك الصحفيون يخلطون بين المعلومات والأخبار) التي يجب أن تخضع إلى عمليات متعددة حتى تصبح أخبارا وهذه التكلفة مرتبطة بمؤسسات وبكفاءات صحفية أي بموارد بشرية، إضافة إلى أن الصحافة تخضع إلى المساءلة والتنظيم الذاتي...».
في نهاية المطاف، يمكن أن نخلص إلى أن التحوّل الرقمي بات ضرورة في قطاع الإعلام كما هو الشأن في كل مجالات الحياة اليومية، وعلى وسائل الإعلام أن تستثمر الثورة الرقمية لصالحها وأن تعرف كيف تقطف ثمارها في أوانها حتى تحافظ على جمهورها وتلعب وظيفتها و تؤدي أمانتها ... كمنارة للرأي العام وحارسة لصاحبة الجلالة في رحاب السلطة الرابعة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115