قراءة في «الروهة» لعبد الحليم المسعودي: محاكمة للظلامية والسقوط في الهوّة

«الروهة» بهذا العنوان القصير، العميق، وهو الملتبس في تأويله والمتلبّس بعوالمه... خرج علينا الدكتورعبد الحليم المسعودي من كهف مظلم في مكان ما... ساحبا

وراءه أشلاء دمار وبقايا إنسان، وما بين يديه تتراقص على ضوء الشمس غنيمة من الفكر ومشكاة من نور تبّدد ظلمة العقول وحلكة القبور... أن يكون اسمها «الروهة» شاء الكاتب والجامعي والمهتم بقضايا الفضاء العمومي وجماليات الصورة والمسرح والفرجة أن يسمي مسرحيته الأولى أو نصه المسرحي البكر الصادر عن «دار مسكيلياني للنشر والتوزيع» بعد أن قدّم للفن الرابع مجموعة من الكتب النقدية على غرار «المسرح التونسي، مسارات حداثة» و»النار والرماد، قراءة في تجربة المسرح الجديد»...

في زمن كتابة الرواية واستعارة المسرح للنصوص الجاهزة مع محاولات في إعادة الكتابة، يقدم الكاتب عبد الحليم المسعودي على مغامرة تحسب له في الولوج إلى عوالم إبداع النصوص المسرحية محكمة البناء ومتينة الحبكة والمستقلة بذاتها بعيدا عن التورط في الاقتباس والتناص... فلا تشبه غيرها!

«الروهة»... الروح الشريرة
لئن كان العنوان هو المصافحة الأولى بين الكاتب والقارئ، فإن هذا الاحتكاك الأول مع مسرحية «الروهة» لعبد الحليم المسعودي يضعنا منذ الوهلة الأولى أمام اختبار تأويل كنه العنوان وتخمين طبيعة العوالم التي تختبىء في جوفها شخصيات هذا النص المسرحي.

ما الروهة إذن؟ هل هي أمّ الشيطان أم هي ابنة الظلام؟ يبدو أنها تلك الروح الشريرة التي تسبح في العتمة وتقبع في الظلمة !

وبالتسلل شيئا فشيئا إلى صفحات مسرحية «الروهة» وتتبّع خطى صاحبها الكاتب في قيادتنا إلى نهايتها فصلا فصلا وشخصية شخصية، ووجعا وجعا... يخيّل إلينا أننا أصبحنا أسرى ذاك الكهف الذي وجد فيه أبطال المسرحية أنفسهم في غير حول ولا قوة منهم !

وبمجرد أن نرتمي في كهف «الروهة» حتى تتراءى لنا ملامح «كهف أفلاطون» في جمهوريته وتلوح لنا قصة أهل الكهف في القرآن الكريم... فقد تختلف العصور وتتنوع المرجعيات والأساطير ولكن تبقى ثنائية الظلام والنور تحكم الكون وقدر الإنسان.

عالم عجائبي عن هموم راهنة
في « الروهة» حيث القاع المظلم يستضيف الكاتب المسرحي شخصيات مختلفة ومتصادمة ومتناقضة... لا شيء يربطها سوى القدر الواحد والمصير المشترك في مواجهة ظلام يطوّقها وفي البحث عن منفذ للنور، للخلاص... وما بين شخصيات مصدرة للموت وأخرى هاربة منه يسم عبد الحليم المسعودي أبطاله بأسماء واقعية وأخرى طريفة ومتخيلة على غرار أمير يونس وعبد الحي الترميذة وشاه بانو وصالحة التومي وكجّة مجّة القصير ذلك القزم الذي لا سنّ له ولا أسنان... وحتى الحيوانات لها وجود وأدوار في «الروهة» وهي التي أفردها الجاحظ بكتاب «الحيوان» ومنحها ابن المقفع في « كليلة ودمنة» كل البطولة، ألم ينطق القنفذ حكمة في الفصل السابع من المسرحية عندما قال:» الصداقة تحتاج إلى هواء نقي، أوكسجين، الصداقة لا تنجح في أجواء عطنة، الصداقة تحتاج إلى أفق رحب، إلى ضوء، إلى مساحات شاسعة ومفتوحة، لا إلى ظلمة... لا يتصادق في الظلمة إلا الجرذان واللّصوص...»

لئن كانت «رحلة الغفران» للمعرّي هي صعود إلى الأعلى ، إلى السماء في محاورة الشخصيات الواقفة على أعتاب الجنة والمحشر والجحيم... فإن «الروهة» لعبد عبد الحليم المسعودي هي رحلة إلى الأسفل ، إلى الهوّة، إلى القرار العميق لتسرد الشخصيات قصصها وتنحت ملامحها وتقود ملاحمها ... ولعلنا نجد وجها من الشبه بين «ابن القارح» الشخصية التي تتنقل في رحلة المعري لتحرك الأحداث وبين كجّة مجّة في الروهة الذي أضفى شيئا من الحركية والدينامكية على الفضاء المغلق والمنغلق والشخصيات المعزولة والمنعزلة في الكهف الغارق في ظلمته...

في «الروهة» نحن أمام غرابة عالم عجائبي وطريف يتقاطع فيه الخيال مع الواقع، الراهن والآتي، الذاتي والموضوعي... فكأننا مع هذا النص أمام لوحات المدينة التي تطير كائناتها العجيبة ويتداخل فيها عالم الإنسان بعالم الحيوانات للرسام الراحل عبد العزيز القرجي.

قد يصعب تصنيف مرجعيات نص «الروهة» وقد بدا صاحبها متشبعا بثقافات متعددة وفنون كثيرة وذاكرة تراكمت فيها القراءات والمشاهدات... فإذا بنا أمام مسرحية «لاشرقية ولاغربية» بل هي حكاية الإنسان في كل زمان ومكان.

نص مسرحي تسانده الفلسفة وتسنده الشعرية
أمام مسرحية «الروهة» لعبد الحليم المسعودي التي لا نشاهدها على الركح ولكننا نقرأها سطرا ونقترفها حرفا ونربط علاقات صداقة وعدواة مع شخصياتها ونتوقف عند فواصلها وتفاصيلها... ليس من الغريب أن نتقمص نحن شخصياتها ونتكلم بلسانها ونعبر فوق ركحها... وفي النهاية تكون مخيلتنا قد انتهت من ترتيب مشاهد المسرحية وتمثيلها وتلويحها بتحية الوداع إلى الجماهير.

لئن كان النص المسرحي كثيرا ما يكتسب الجمالية في أبهى صورها بتحوله إلى مادة حية ونابضة على خشبة الركح، فإن هذا لم يمنع «الروهة» من أن تنتعل حذاء الخرافة المشوقة وتضع مواد زينتها كاملة لتستقبلنا في أحلى طلّة. فكانت ممتعة كنص مسرحي مقروء وقد انسابت في نفس شعري وانهمرت في بعد فلسفي يبحث في علاقة الموت والحياة ويميط اللثام عن الأقنعة والأكاذيب والألاعيب التي يتخبط فيها الإنسان من خلال حوار مؤرق ومقلق ومسكون بالسؤال عن حقيقة النوايا والمشاعر والأفكار ...

ليست الوشاية بأسماء المدن والعواصم وجرائم داعش... سوى علامة على تكلم «الروهة» بلسان الإنسان المهزوم في العراق وسوريا وكل الوطن العربي المهزوم وتبنيها لقضايا الراهن، الآن وهنا ... ولكنها تنسحب على كل عصور الظلام وأزمنة القبح والجهل والرياء منذ أن أصبح «كل شيء يباع، كل شيء، الآثار القديمة، الحجارة، السراب، عواصف الرمل، نعيق الغربان، الأشباح، كل شيء يباع...»

في النهاية، منح لنا صاحب «الروهة» التي رجتنا في العمق حرية الاختيار وعيش الحياة كما تستحق أن تكون كما أوصانا جلال الدين الرومي: إذَا كَان النُّور في قلبِك سوفَ تجِد طَريقك» أو كما قال كانط في تصدير «الروهة» : «كن شجاعا واستخدم عقلك بنفسك.»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115