وكانت الفطرةُ من دِينٍ. وإنّ التوحّشَ لا يقبلُ التنحّي مِنْ على العرش لتَسودَ المَدنيّةُ. وإنّ الأسْطورةَ لتغلبُ الفكرَ. كذلك هي حال العالم الإسلامي، بما في ذلك العرب، حَيث رُبعُ سُكان العالم، في غَيبة أو شبه غَيبة، لا يَصنعونَ القرار، ولا يَتَجذّرونَ في العصر، ويَنخرُ فيهم الفقر. فمَنْ نحنُ؟
نَحنُ نَصنعُ المشهدَ. نُصلّي في الشوارع ولا يُصلّي غَيرُنا في الشوارع. لباسُنا اليومي هو لباسُنا الديني. الجُبّةُ والعمامةُ وعباءةُ الخَليج والقَميصُ الأفغاني والحجابُ والخمارُ والنقابُ وكلُّ كساءٍ يَنفي الجَسدَ، كلّها وُضعتْ في البدء للدين في هَيكَل أو مَعبَد أو كَنيسة أو بَيْعَة أو مَسجَد. ثمّ اكتسحتْ حياتَنا اليومية، وانقلبَ الفَضاءُ العامُّ فَضاءً للدين. ونَحنُ نُقسمُ، وإنْ كَذبنا، بالله والبَيتِ ورَبّ البَيتِ وآلِ البَيتِ والنّبيءِ والقُرآنِ والذّكرِ الحَكيم. ونَحنُ إذا مَرضنا أوْكَلْنا أمْرَنا إلى الله، وأوْكَلَ طَبيبُنا أمرَنا إلى الله. فإنْ سألناه عن حالنا قال: بارئون بإذن الله، والأعمارُ بيد الله، حتى لَنَتساءلَ لِمَ امتهنَ الطبَّ إنْ كان لا يَشفي ولا يُبرئ. ونَحنُ نَبدأُ الكلامَ باسم الله، ليكتسبَ كلامُنا شَرعيّةً، وهو مُخاتلةٌ وكذبٌ وبُهتان. ونَحنُ إذا دَخلنا بيتاً دَخلناه باسم الله، وإذا أكلنا طَعاماً أكلناه باسم الله، وإذا خفنا في مَقبرة سَمّينا باسم الله وقرأنا سورة يس. ومُعلّمةُ حَيّنا المَصونُ تُدرّسُ الأطفالَ عَذابَ القبر، ومع مَطلع كُلّ أسبوع تُشدّدُ لهم العذابَ وتَزيد.
كذلك نَحنُ، عاجزون لا يَحلو لنا العَيشُ إلاّ في ظلّ الله، واتّخذنا القَضاءَ والقَدرَ شعاراً، والقضاءُ والقدرُ تِعلّةٌ للضّعفاء. كذلك نَحنُ، مُتفرّجونَ والعالم يَتحرّك، أصابَنا العَجزُ ونَظّرَ المُنظّرون فينا للخَتم. والخَتمُ أنْ نُوقفَ كلَّ شَيء عند لَحظة البَدء، ونَلوذَ بالفرار إلى الماضي البعيد الذي تَشكّل لنا بَدْءًا. ولا بَدْءَ. لأنّ ما نَظنُّه البَدءَ كان ثَقافةً بدأت في التشكّل بعد قرنيْن أو ثلاثة من نَشأة الإسلام، ولم تأخذ صورَتها بالكمال والتمام إلاّ بعد أربعة قرون أو خمسة، لمّا أصبح إسلامُ النشأة مُجرّد ذكرى، وأخذَ الناسُ يَعيشونَ على وقع تلك الذكرى لأنّهم لم يعرفوا كيف يتجذّرون في العصر. وقد أصبحنا اليوم مِثلَهم، لا نَعرفُ كيف نَتجذّر في العصر فلُذْنا بالماضي نَظنّه مفتاحَ العصر، وهو ثَقافةٌ ماضيةٌ تَنفي كلَّ ثقافة غَيرها، تنفي الحاضرَ.
ويُمكنُ أنْ نَقولَ ولا حَرجَ إنّ القُرونَ التي تَشكّلتْ فيها الثقافةُ العَربيةُ الإسلاميّةُ وأصبحت ثقافةً مَختومةً أهملت الخَتمَ الذي جاء في الآية: «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا» (الأحزاب 33 /40).
في هذه الآية رَبطٌ بين العناصر لا يَقبلُ التجزئةَ والتفريق. وفيها رَبطٌ صَريحٌ بين مُحمّد الذي مَا كَانَ أَبَا أَحَدٍ ومُحمّد الذي كان َخَاتَمَ النَّبِيِّينَ. فجُملةُ مَا كَانَ أَبَا أَحَدٍ تَقطعُ كلّ علاقة للبشر مع مُحمّد ولا تُشرّعُ للإنجاب والنسب، ولا للتبنّي والقرابة والصُّحبة، ولا للإرث والخلافة. وجُملةُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ تَقطعُ أمام البشر كلّ علاقة مع السماء والله والنبوّة، وتُعلنُ على الملإ انقطاعَ أخبار السماء ونهايةَ المرحلة التي كان فيها الإنسانُ يَتلقّى الأمورَ من السماء. فالآيةُ تَقطعُ السبيلَ أمام كلّ مَنْ يُريد أنْ يَستغلَّ مُحمّداً ويَرثَه بوصفه إنساناً، وأمام كلّ مَنْ يُريد أنْ يَستغلَّ مُحمّداً ويَرثَه بوصفه ديناً، ويَستغلَّ دينَه.
لقد أقرّتْ الآيةُ الخَتْمَ نظاماً، فخُتمتْ مَرحلةُ الدين. فالدينُ مَرحلةٌ من مراحل الحياة البشريّة ليس غيرُ، جاء بَعدَ السّحرِ الذي كان قَبلَه وشَكّلَ مَرحلةً هامّةً في حياة الناس، وجاء قَبلَ العلمِ الذي تَشكّلَ بَعدَه مَرحلةً هامّةً أخرى في حياة الناس وتَطوّرَ خارجَ إطار المقولة: ما تشاؤون إلاّ أنْ يشاء الله، ودعا الإنسانَ إلى أنْ يُعوّلَ على نَفسه وقد انقطعتْ عنه أخبارُ السماء وغاب السند الربّاني الذي كان يتجلّى له في النبوءات.
كان الخَتمُ إيذاناً بوَقفِ مَرحلةٍ مَضى عَهدُها، وإعلاناً عن انطلاق مَرحلةٍ أخرى، تُكرّسُ الفكرَ والعلمَ وتُرسّخُ في الناس التعويلَ على النفس. ولكنّ ثقافةَ الخَتم التي سَطّرها القُدماءُ ونَظّر لها المُنظّرون خلال القرون الطويلة، جَعلتْ الخَتمَ تَوْقاً إلى الماضي، وتَأليهاً للسلف، وتَقديساً للنصوص التي تَشكّلت في ذلك الماضي ثابتةً جامدةً لا تَقبلُ الزيادةَ ولا تَقبلُ النقصان. فانحبسنا في ذَواتنا، نَدورُ على ذَواتنا كدراويش الزاوية.
كان الختمُ إيماناً بالعَجز، وقُصوراً على مُواكبة العلم والإضافة فيه والتجديد والتجذّر في العَصر. فَرجعَ الناسُ بالمقولة إلى الماضي واستشهدوا بأقوال القُدامى وبالقرآن والحَديث والسُّنَنِ المُختلفة. فلا تَفسيرَ للقرآن إلاّ من خلال المفسّرين القدامى. ولا حَديثَ في السياسة والاجتماع والحكمة والطبّ والأمراض إلاّ من خلال آيةٍ أو حَديثٍ أو قَولِ صَحابيّ أو تابعٍ أو عالمٍ من ذلك الزمان. ولا مَثلَ سائرٌ إلاّ من خلال ما بارك الله مِنْ خِلافةٍ أو إمارةٍ للمؤمنين تَغتصبُ المؤمنين وتقتلُ فيهم كلّ نَفَسٍ تَوّاقٍ إلى مستقبل آخر.
فإذا سألتَ الناسَ اليومَ عن تفسير الآية التي ذكرناها أعلاه، سارعوا إلى المفسّرين القُدامى يَرْوُونَ فيها ما رَوَى أولئك المفسّرون من قَصَص: أنّ مُحمّداً أعجبتْه زينبُ امرأةُ زَيد بن حارثة مولاه الذي ربّاه وتَبنّاه، فطلّقها منه وتَزوّجَها بصريح الآيات. ولَمّا تَقوّلَ في هذا الزواج المُتقوّلونَ، وطَعنَ فيه المُنافقون بما لا يَعرفونَ، وتذاكروا سرًّا وعَلناً أنّ مُحمّداً تَزوّج امرأةَ ابنه الذي ربّاه وتبنّاه، نزلت الآية تفكّ العلاقة بين محمد وزيد وتُشرّع لهذا الزواج المباح. وللقصّة في كتب التفسير والتاريخ والطبقات تَطوّراتٌ عديدة تدلّ جميعاً على أنّ الثقافةَ يومَها كانت تحكمها القصّةُ الجميلة والأسطورة والميث، فلمّا دُوّنتْ صارتْ ثقافةً مَختومةً، لا تقبل الزيادة ولا تقبل النقصان ولا تقبل التكذيب، فيُعيدها الناسُ اليوم لأنّ الثقافةَ العربيةَ الإسلاميةَ مازالت تَحكمُها القصّةُ الجَميلةُ والأسطورةُ والميث وتَتشكّلُ مَشهداً أمام الناظرين.