في العرض الأول لمسرحية «هوامش على شريط الذاكرة» لأنور الشعافي: مساءلة للذاكرة المهزومة أمام عبث الحياة!

«لنا جميعا آلات سفر عبر الزمن... منها ما يعيدنا إلى الوراء وتلك اسمها الذاكرة ومنها ما يدفعنا إلى الأمام

وتلك نسميها الأحلام». في هذه الذاكرة نخبّئ الأحداث ونخزن الذكريات كوديعة ضد النسيان لنستدعيها في لحظة حنين إلى لحظة ما، شخص ما، مكان ما... كثيرا ما تتمرّد فصول الذاكرة على قانون التسلسل والترتيب المنطقي لتتداعى بعفوية وتلقائية، مبعثرة ومشوّشة... وعلى شريط هذه الذاكرة خطّ المخرج المسرحي أنور الشعافي هوامش ووضع تفاصيل منها بين قوسين في مساءلة نقدية للذاكرة الإنسانية وانتقاء فواصلها بعشوائية دون حول أو قوة منّا...
بعد 30 سنة يعود المخرج أنور الشعافي للاشتغال على مشروع تخرجه مع أستاذه المؤطر رضا بوقديدة، فكانت مسرحية «هوامش على شريط الذاكرة» من إنتاج المسرح الوطني. وقد احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة العرض الأوّل لهذه المسرحية التي كتب نصها رضا بوقديدة عن نص «الشريط الأخير» لصامويل بكيت ولعب أدوارها على الركح كلّ من رضا بوقديدة ومنى التلمودي.

عندما يصبح الهامش أهمّ من الأصل!
لا مكان محدّد، ولازمان مقيّد... هي حكاية قد تشبه كل إنسان. على ركح «هوامش على شريط الذاكرة» يظهر للجمهور رجل مسن يجلس إلى طاولته المكتظة بأشرطة «فيديو كاسات» والمحتفية بآلة تسجيل قديمة هي كل سلاح العجوز لتوثيق فصول عمره التي تذهب و لا تعود في عدم اعتراف بنظام تعاقب فصول الطبيعة... كانت تلك الأشرطة هي أرشيف الرجل وسيرة حياته التي مر قطار العمر على محطاتها سريعا كالبرق الخاطف !

بمناسبة عيد ميلاده، يرغب الرجل الطاعن في السن والذاكرة في تسجيل حلقة جديدة من أحداث حياته في طقس دأب على أدائه منذ زمن بعيد. ولكنه سرعان ما ينهار أمام عبث الحياة به وبنا بالرغم من محاولته اصطناع احتفال عابر وفرح كاذب! هي لحظة بحجم اللوعة التي أنشد بها المطرب فريد الأطرش أغنيته: «عدت يا يوم مولدى... عدت يا أيها الشقى... الصبا ضاع من يدى... وغزا الشيب مفرقي..».

في «هوامش على شريط الذاكرة» يدعونا البطل الذي شاخ عمره وشاب مفرقه إلى مرافقته في رحلة استدعاء ذاكرته التي يتقاطع فيها الذاتي مع الموضوعي انطلاقا من قصته مع غدر المرض الذي فتك بصحة جسده وصولا إلى أحداث وطنية وعالمية على غرار مشاركة تونس عام 1978 في كأس العالم بالأرجنتين وتصريح للشهيد شكري بلعيد وسقوط جدار برلين وأحداث 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة... ولم يكن هذا الاستذكار لوقائع مضت محتكما إلى منطق أو ترتيب بل كان تداعيا لذاكرة مشوّشة كثيرا ما كان الهامش حولها أهم من متنها!
قد تبدو ذكريات بطل المسرحية وتعليقاته وبوحه... أشبه بالثرثرة والحوار المبعثر كشظايا الذاكرة المنسية في أدراجها المغلقة ولكن بالتمعن فيها نكتشف عمقا وجوديا وطرحا فلسفيا عن الفن والإنسان والحياة.

المرأة مفرد في صيغة الجمع
إلى حدّ التماهي في الشخصية والانصهار في الدور بمنتهى الدقة والفن، أبدع الممثل رضا بوقديدة في ارتداء ثوب العجوز الذي يزأر على الركح في ثورة على العجز والوحدة والكبر وكأننا به يردد ما قاله أبو العتاهية: بكيت على الشباب بدمع عيني...فلم يغن البكاء ولا النحيب فيا ليت الشباب يعود يوما.فأخبره بما فعل المشيب. أمام هذا القدر المحتوم في ملحمة الوجود لم يكن بطل المسرحية وحده يصارع لعبة الحياة بل وجد الجمهور نفسه في الموقف ذاته، فإما شيخوخة أضحت واقعا وإما شباب يتوّجس من شيخوخة مؤجلة إلى حين لكنها قادمة لا محالة!

على الركح يدور الرجل الطاعن في السن حول طاولة أشرطة ذكرياته في خشوغ المتصوفة حينا وعبث الشباب المتصابي أحيانا وكأنه يلاحق سنوات العمر الضائعة ويطارد طيف الفرح الهارب من حياته.
لم تكن التسجيلات التي تحتفظ بها الشخصية سوى داء ودواء في استجداء لبعض الأمان العاطفي والاستقرار النفسي وتسوّل لشيء من الألفة والارتياح والمصالحة مع الحياة.

كانت العلاقة بين الرجل وأكوام أشرطته المسجلة التي ليست سوى أجزاء من حياته وذكرياته محكومة بمشاعر متناقضة ومبعثرة فالبرغم من اعتنائه الشديد بترصيف ثروته التي ظفر بها بعد عقود من العمر فهو لا يتواني أن يطلق عليها عاصفة من الغضب والحنق وأن يرميها أرضا كالجثث الهامدة. وكأننا أمام هذه المشاهد من مسرحية «هوامش على شريط الذاكرة» نقف أمام مرآة الحقيقة المرّة عن عبثية الحياة على مسرح العبث !

لئن كان من المتوقع أن يكون العمل المسرحي الجديد لأنور الشعافي في شكل مونودراما فقد لجأ المخرج إلى تطعيم ركحه بشخصية نسائية -ربما- حتى يسترسل في سرد الهوامش التي قد تكون أهم من الأصول أحيانا! على متن الركح تظهر الممثلة منى التلمودي برشاقة وظرافة في صورة امرأة بصيغة الجمع لتلعب أكثر من دور نسائي لتتعدد أسماؤها ووظائفها وأزياؤها فهي الممرضة والخادمة والعشيقة... وكأننا بصاحب العرض قد أراد أن يبدّد شيئا من سوداوية المسرحية، فعمد إلى استحضار النساء اللاتي قد يعبرن في حياة رجل في خريف العمر !

صور السينما تلتبس بمشاهد المسرح
على خشبة متقشفة من متممات الركح التقليدية، حاول المخرج أنور الشعافي أن يكون وفيا لطبيعة النص الأصلي لصامويل بيكيت هو أقرب إلى المسرح الصوتي منه إلى المرئي. ولكنه في المقابل اجتهد في خلق مشهدية تخاطب حاسة البصر حتى يكون الجمهور مستمعا ومشاهدا في الآن ذاته. وهنا، استعان مخرج العرض بتقنيات السينما والصورة لجعل الذاكرة المسجلة صوتيا ذاكرة مرئية عبر بث مجموعة من الفيديوهات توّثق للأحداث بالصوت والصورة.

طبعا لم يرض أنور الشعافي المخرج المهووس بمسرح التجريب وتوظيف جماليات جديدة ركحيا وفنيا أن تسير مشاهد «هوامش على شريط الذاكرة» على النسق نفسه والإيقاع ذاته من بداية العرض إلى نهايته باعتبار أن النص الأصلي خال تقريبا من تصاعد الأحداث في بنيتها الكلاسيكية من تأزم وعقدة وانفراج... فإذا به يفاجئنا في نهاية العرض بمشهد طريف وغير متوقع يتمثل في استعارة كاميرا السينما لتصوّر خروج الممثل رضا بوقديدة من باب قاعة الفن الرابع التي تحتضن المسرحية ليتوّغل في شارع باريس ويغيب في الزحام كما غابت هوامش كثيرة من شريط ذاكرته... كما تاهت في الحياة عشرات الذكريات التي ضاقت بها الذاكرة !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115