مغدورا وشهيدا لحرية الرأي...ومن العراق إلى تونس، لا يختلف مشهد اغتيال ابن كربلاء كثيرا عن جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 6 فيفري 2013، حيث لم يتوان مسلحون على دراجة نارية عن إطلاق وابل من رصاص الغدر والجبن صوب الشهيدين ويفرّان إلى وجهة غير معلومة... وتبقى هوية القتلة مجهولة! إن أعداء الفكر مفردا في صيغة الجمع ومعركة الحرية واحدة وإن اختلفت التفاصيل...
لازال الموت يتربص بأهل الفكر والإبداع طالما الرصاص في أيدي المسلحين الخارجين عن القانون أو المتواطئين مع الحكام الجبابرة... ولكن يحدث أن تستحيل حادثة الاغتيال إلى صرخة حيّة تستفز النيام للوقوف في وجه الظلم والظلام بكل أشكاله...
13 رصاصة تغتال فكر ابن كربلاء
في مدينة لم تعرف استقرارا ولم تجد للأمان طريقا ومستقرا، يعربد الرصاص بلا رقيب ويسيل دم الاغتيالات تحت جنح الظلام وفي وضح النهار... ولكن الدكتور الشهيد علاء مشذوب الخفاجي لم يهجر هذه المدينة وبقي يعيش على ذكرياتها ويرسم لها بخياله صورة أجمل على أمل أن يغدو الحلم واقعا ذات يوم. وقد كان آخر ما كتب الروائي علاء ابن كربلاء عن المدينة التي اغتيل في شوراعها وكأنه يوّدعها ما يلي :»صباح الأزقة والشوارع الفرعية لمدينة لم تنعم بالاستقرار أبدا. في كل مرة أصل إلى رأس شارع (أبو ديه) أقف بحبورعنده وأضع يدي اليمنى تحت حنكي وأتفكر به. فيرتسم بذهني مرة كسفينة راسية، ومرة خليجا واسعا، مرّة أراه فكرة مجردة، ومرة حقيقة واقعة. أية غمامة صيفية بيضاء هذا الذي أقف في حضرته».
مساء السبت 2 فيفري 2019، كان الروائي والكاتب علاء مشذوب عائدا إلي بيته بعد أن كان حاضرا في أمسية أدبية تحاور فيها العقول العقول ويزهو فيها الفكر والنور... وفي وسط مدينة كربلاء، أطلّت عليه من بين ثقوب الظلام وجوه الظلامية والعدم متربصة بحياته وآرائه، فإذا باثنين من المُسلّحين المجهولين على متن دراجة نارية يخترقون جسد المغدور بـإطلاق 13رصاصة !
قد لا يليق الرثاء بفرسان الكلمة الحرة فهم أكبر من البكاء، وسيبقى علاء مشذوب نخلة كربلاء الشامخة وطير العراق المغرد بالمقاومة والحرية !
في كتاب «محاكمات الفكر والإبداع» للمنّوبي زيّود:
تعداد لجرائم اغتيال العقل الحرّ
تتباعد فترات التاريخ وتختلف تحديدات الجغرافيا ولكن يبقى همّ الإنسان واحدا والحرية قيمة كونية. ولعلّ حادثة اغتيال الروائي والباحث العراقي علاء مشذوب تحيلنا إلى كتاب قيّم انضاف حديثا إلى ذاكرة المكتبة التونسية بعنوان» محاكمات الفكر والإبداع» للروائي والمحامي المنّوبي زيّود. وقد صدر هذا الكتاب مؤخرا عن «دار الجنوب» للنشر في تقديم للعميد محمد الصالح بن عيسى الذي قال عن هذا الكتاب:»يمكن القول بأن قراءة كتاب الأستاذ المنوبي زيّود لا تقف بنا في حدود المحاكمات المدروسـة وملابســـاتها، بل تعود بنا في النهاية إلى إشكالية الصراع بين السلطة والحرية التي تظل مطروحة في جل المجتمعات وخاصة منها التي لاتزال تتلمس طريقها نحو الديمقراطية... وكما في سائر الأقطار فإن تونس ليست في مأمن من هذه الانزلاقات الخطيرة وحتى بعد ثورة 14 جانفي 2011 لا تزال العلاقة بين حرية الفكر والإبداع من جهة والقراءات المتحجرة للموروث الديني والروحي، من جهة أخرى، علاقة متأزمة يحكمها الغموض والخوف والتوجس».
يعج التاريخ بقصص محاكم التفتيش ومظالم شرطة الفكر التي دونتها موسوعة الإنسانية ورددت سيرتها الكتب والمراجع ولكن الجديد والمختلف في كتاب المنوبي زيّود الذي يلبس رداء المحاماة ويضع قبعة الروائي في الآن نفسه أنه يرفق سرده لنماذج من محاكمات الفكر والإبداع وتعداده لأسماء المفكرين والفلاسفة الذين سلط عليهم سيف الرقيب بملفاته القانونية والقضائية من مداولات في المحكمة ونصوص قرارات الأحكام وفصول الإدانة والعقاب...
وفي إحاطة بالملابسات السياسية التاريخية والاجتماعية والعقائدية... يعود بنا صاحب كتاب «محاكمات الفكر والإبداع» إلى التاريخ البعيد ليصل بنا إلى زماننا المعاصر وهو يروي لنا بأسلوب شيق وآخاذ أشهر محاكمات حرية التعبير في تاريخ الإنسانية.
إلى قاعات المرافعة يدعونا الكاتب المنّوبي زيّود إلى مرافقته حسب الترتيب الذي ورد في فصول كتاب «محاكمات الفكر والإبداع» في جلسات محاكمة الفيلسوف سقراط والمتصّوف الحلاّج والشاعر الفرنسي بودلير والأديب الفرنسي غوستاف فلوبير والكاتب المصري طه حسين والناقد المصري نصر حامد أبو زيد والمفكر السوري صادق جلال العظم والفنان المصري عادل إمام.
وقد برع الروائي المنّوبي زيّود في المراوحة بين الحبكة الروائية والدقة القانونية، جمالية الأسلوب وصرامة فصول القانون... فإذا بنا أمام قراءة غير معهودة لمحاكمات الفكر والإبداع التي كتب لها ألا تنتهي مادام على هذه الأرض حياة يتنازعها أهل السلطة وحملة السلاح ويدافع عنها فرسان القلم والكلمة الحرّة.