وتاريخ تونس أبدا لم ينقطع مداده ولم تنته أمجاده وهو الذي كتب بأحرف من ذهب ما لم تقله الكتب من أسرار دفينة وفصول غير معلومة. بعد يوم من السفر في معالم سوسة و مواقع المنستير وآثارها وارتحال إلى عهود التاريخ الغابرة... كان لابد من المغادرة، وإن كانت في البال أسئلة معلقة ومزيدا من الرغبة في الاكتشاف واستنطاق الحجارة التي هي ليست بالخرساء ولا الصماء بل الشاهدة على العصر والنابضة بذاكرة الزمان والمكان.
في رحلة زادها التراث ومؤنسها التاريخ، كان شدّ الرّحال صباح السبت 12 جانفي 2019 إلى عدد من المتاحف والمعالم الأثريّة بمدينتي سوسة والمنستير في إطار الزيارة التي نظمتها وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية بالتعاون مع المعهد الوطني للتراث. وتندرج هذه الزيارة ضمن البرنامج الوطني «مدن الحضارات» الذي أعلنته وزارة الشؤون الثقافية وفي سياق تنفيذ الاتفاقية الممضاة بين الوزارة والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
فسيفساء متحف سوسة كنز ثمين
هي المدينة الساحرة، المغرية بأسرارها، المحيّرة بألغازها... وهي التي تخفي خلف أسوارها فصولا من التاريخ وسجلا من الأحداث، عرفنا منه أشياء وغابت عنّا أشياء ! إلى سوسة «جوهرة الساحل» كان «المحجّ» إلى محراب التاريخ تبرّكا بمعالمه وآثاره وشموخه...
فتح لنا المتحف الأثري بسوسة بابه وحضنه ليهدهد فينا حلما بسبر أغوار تاريخ هذه البلاد العريقة والشهيرة والجميلة التي أدرجت مدينتها العتيقة على لائحة التراث العالمي.
باح لنا المتحف بالخفايا وحدثتنا الفسيسفاء والمنحوتات والفخاريات الموّزعة في عناية بالغة بأرجائه عن تعاقب الحضارات وتتالي الإمبراطوريات على أرض «هدريماتوم» عند الرّومان أو «جوستينا» عند البيزنطييين أو سوسة كما هي عندنا الآن جوهرة المتوسط.
انطلاقا من العصور القديمة وصولا إلى العهد الإسلامي، كان متحف سوسة الأثري ذاكرة الزمان والمكان في سرد وقائع الماضي البعيد وتجميع الشواهد لتبقى شاهدة على حضارات عمّرت الأرض ودخلت التاريخ من بابه الكبير.
ولعل من أجمل مكوّنات متحف سوسة الأثري هي مجموعته الفسيفسائية التي تحتّل المرتبة الثانية وطنيا بعد متحف باردو في العاصمة. في هذه اللّوحات من الفسيفساء تتجلّى الحياة بكل تفاصيلها من معتقدات وآلهة ومهن ولكنها تؤكد بوضوح احتفاء الرومان بالشعر والموسيقى والفن...
جامع سوسة الكبير وسر صومعته المفقودة
بعد الجولة الرائقة في أروقة المتحف الأثري بسوسة، كان الجامع الكبير في قلب المدينة العتيقة هو المحطّة الثانية في برنامج الرحلة الاستكشافية والتعريفية بمعالم المدينة. وما إن تطأ قدماك بهو الجامع يشد انتباهك غياب الصومعة ذلك إنّ إقامة الصلاة تتصاعد من منارة الرباط المجاور له على بعد بضعة أمتار لأسبقيته في الوجود والبناء.
وليس مبنى المسجد بلا صومعة فقط ما يسترعي الانتباه ويحث على الاستفسار، بل أيضا طبيعة التركيبة الهندسية للجامع الكبير بسوسة والتي جاءت في صبغة عسكرية بجدرانها الصلبة وأبراجها الدائرية وكأنها شيّدت لتكون أبراج مراقبة. ويفسّر المؤرخون هذا المعمار العمراني الفريد من نوعه لمسجد سوسة باعتبار أنّ «المدينة كانت نقطة أساسية في الإستراتيجية العسكرية الأغلبية، من ذلك أنّها كانت منطلقا للحملات الأغلبية العسكرية التي شنّها الجيش الأغلبي لاحتلال جزر صقلية وسردينا ومالطا..». ولئن تمّ بناء هذا الجامع في بداية القرن التاسع ميلادي بأمر من الأمير أبي العباس محمد بن الأغلب، فقد أدخلت عليه تغييرات وزيادات خلال القرنين العاشر والسابع عشر ليكون في مجمله نموذجا حيّا عن تعاقب الدول وتبّدل الملوك فإذا بجدرانه وحجارته ونقوشه تأخذ من كل حضارة بطرف.
رباط سوسة حصنها المنيع
غير بعيد عن الجامع الكبير، يتربع رباط سوسة كجوهرة من بين حبّات عقد الرباطات الممتدة على سواحل شمال إفريقيا، من هنا كان المرابطون يدحرون كيد الأعداء ويطردون الغزاة القادمين من وراء البحار. وفي رحاب قلعته المنيعة وحصنه الآمن كان رواده يجدون فيه المكان المناسب للتعبّد والتنسك وممارسة الشعائر الدينية.
وتروي المراجع أنّ رباط سوسة شيّد في أواخر القرن الثامن ميلادي. وهو عبارة عن قلعة صامدة تنتصب في حماية برج المراقبة الذي يعلوها والذي يهب لزوّاره - ممن يدفعهم الفضول إلى تسلّق جدرانه - فرصة ثمينة لمشاهدة المدينة من علوّ واستشراف حدودها وبحرها كما كان يفعل المرابطون منذ قديم الزمان. وهكذا استحق رباط سوسة الشهرة والصيت الذائعين كواحد من سلسلة القلاع الممتدة على طول ساحل البحر المتوسط في إفريقية كحصن للدولة الإسلامية قديما.
رباط المنستير منارة للعلم والدين
في دلال وجمال تستسلم المنستير إلى أنامل البحر ليداعب بحنوّ جدائلها وليحنو عليها ليقبّل جبينها وهي مدينة الرباط الشهير الذي يُعدّ من أهمّ الحصون الدفاعيّة الإسلامية وأقدمها في المغرب العربي.
وعن رباط المنستير، أنشد الشاعر «صادق مازيغ» قائلا:
عــــدت الخضــــراء زهـــر المنـــاقــب.. . وتــاهــــــت عـــلى الدنيـــا بجلوة كاعب
الربــــــــاط الفــــــــذ درة عــــقــــــدهــــا... ومــــوجــــب إطراء لهــــا في المواكب
الديـــن والتقـــــــوى ابتنـــاه حمــــاتهــــا... فثـــــاب إليه الفضـــــــل من كل جـــــــانب
عند الدخول إلى بهو رباط المنستير تسيطر عليك مشاعر الرهبة والخشوع في حضرة أقدم وأهم البناءات الدفاعية التي شيّدها الفاتحون العرب في فجر الإسلام على طول السواحل المغاربيّة.
واستنادا إلى معطيات وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية فقد تأسّس هذا الرباط سنة 796 وأدخلت عليه في العهد الوسيط عدّة تحسينات وتغييرات. فقد كان في البداية رباعيّ الأضلاع، مؤلّفا من أربعة مبان تفتح على صحنين داخليّين. بالإضافة إلى الحجرات الصغيرة المخصّصة للمجاهدين المتعبّدين الذين كانوا يضطلعون بوظائفهم العسكريّة ويعكفون في نفس الوقت على الصلاة والتأمل، يحتوي الرباط على مسجدين، يأوي أوسعهما اليوم مجموعة فريدة من لوازم العبادة والصناعات التقليديّة في العهد الوسيط.
ويمكن الصعود في مدرج حلزوني الشكل، فيه حوالي مائة درجة، للوصول إلى برج المراقبة الذي كان يتمّ منه تبادل الإشارات الضوئية، في الليل، مع أبراج الرباطات المجاورة، والذي يتيح للزائر التمتّع بمشهد رائع على مدينة المنستير وشاطئها.
ولم يقتصر دور رباط المنستير على الدفاع عن ثغور الدولة الإسلامية بل كان منارة للعلم واضطلع بمكانة محراب التعبّد والتأمل واستضافة الفقهاء والعلماء على غرار ابن الجزار القيرواني... فليس من الغريب أن تنجب أرض المنستير الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة.
«قصر المرمر» عنوان شخصية الرئيس بورقيبة
أمام قصر المرمر بسقانص من ولاية المنستير، كان الوقوف على أطلال ذكرى زعيم حيّر الاحتلال وحصد الإعجاب فارتقى إلى مراتب الأبطال الخالدين في موسوعة التاريخ.
في هذا القصر الذي يحتفي بمادة الرخام فاستحق تسمية «قصر المرمر»، كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يقضي فصل الصيف على مشارف شاطئ سقانص الجميل. هنا كانت أشياؤه وبقاياه وذكراه حيّة لا تموت وهي تروي تفاصيل من حياة أول رئيس للجمهورية التونسية.
أوّل من يصافحنا في بهو القصر سيارة «المرسديس» أو «ربرويس رويس» النادرة التي لا يوجد منها في العالم سوى خمس سيارات فقط على ملك شخصيات مرموقة في العالم على غرار الرئيس الأمريكي الرّاحل جون كيندي...
في انبهار بتحفة معمارية تسلب القلوب وتخلب الأبصار ، وقف زوّار قصر المرمر في تحية إكبار وإجلال للمهندس المعماري التونسي الشهير «أوليفيه كليمان كاكوب» الذي أبدع في عام 1962 قصرا بمقاييس معاصرة على غرار المصعد الكهربائي والتحكم الأوتوماتيكي في الأبواب والنوافذ ... وأيضا للرئيس الحبيب بورقيبة الذي امتلك نظرة استشرافية وحداثية حتى في المعمار!
ولعل ما يشد الانتباه في قصر بورقيبة بسقانص إلى جانب ذوقه الراقي والمعاصر هو الشواهد الكثيرة على شخصية الرئيس المثقف والمهتم بالفن والتي تجلّت في ثراء مكتبته وجمال اللوحات في شكل الزرابي الحائطية المعلقة وجمالية مسرح حديقته ورسومات عبد العزيز القرجي....
في قصر المرمر ذاكرة حيّة ستحدّث الأجيال على مرّ الأزمان عن رئيس فريد من نوعه جمع بين الأناقة والذكاء والخطابة والبطولة، فحفظت له الدولة الحديثة الجميل والذكرى...
ويبقى «التاريخ ذاكرة الأمم، أو معملا كبيرا لتجارب البشرية، يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها...».
مدير وكالة إحياء التراث كمال بشيني لـ «المغرب»:
نسعى إلى انطلاقة جديدة بعد الأزمة الخانقة
عن أهداف الزيارات المخصصة للصحافة والإعلام إلى المعالم والمواقع الأثرية اعتبر مدير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية كمال بشيني أن هذه المبادرات تندرج في سياق سلسلة من الزيارات المبرمجة لزيارة حوالي 54 متحفا ومعلما مفتوحا للعموم في البلاد التونسية. وقد كانت الرحلة إلى مدينتي سوسة والمنستير فاتحة الزيارت لسنة 2019، بعد أن شهدت سنة 2018 زيارة موقع قرطاج ومدينة القيروان والمتحف الوطني بباردو.
كما نعلّق آمالا كبيرة على هذه الزيارات التي من شأنها التعريف بالمخزون الأثري والتراثي للبلاد التونسية والترويج له قصد دفع السياحة الداخلية خصوصا للاقبال عليها، ووعد مدير وكالة إحياء التراث بانطلاقة جديدة للمؤسسة بعد أن مرت بظروف مادية حرجة إثر الثورة وتراجع عدد السياح...
أعوان التراث يحملون الشارة الحمراء
قررّت النقابة العامة بالمتاحف والمواقع الأثرية بالتزامن مع الزيارة التي أداها وفد الصحافيين والإعلاميين إلى متاحف ومواقع ولايتي سوسة والمنستير حمل الشارات الحمراء من طرف كافة أعوان الوكالة. وقد أفادت النقابة أن هذا «الاحتجاج يأتي على خلفية تعمد الإدارة تحسين ظروف العمل داخل المتاحف والمواقع الأثرية فقط في المناسبات مثل زيارات الوفود الرسمية والتظاهرات الثقافية... إنّ حمل الشارات الحمراء لا يمت بصلة إلىأية مطالب مادية أو شخصية إنما هو احتجاج على إعطاء صورة مغلوطة لا تعكس حقيقة الظروف السيئة التي تعيشها المتاحف والمواقع الأثرية...»: