بل في تآلف وتناغم؟ فإذا بنا نهيم مع فيلم «الهائمون» لناصر خمير لا حول ولا قوّة لنا أمام شاشة مثقلة بالرمز وسامة الطرح والأسلوب... وكأننّا بالمخرج يأخذ بيدنا في رحلة مع أبطاله التائهين في الصحراء لنصاب بعدوى حيرتهم ومخاوفهم ومعتقداتهم وخرافاتهم وشكّهم ويقينهم... فإذا بصاحب «الهائمون» قد جعل منا «هائمون» آخرون في ملحمة الحياة!
«الهائمون» شريط روائي طويل يعود إلى سنة 1984 في بطولة لكل من سفيان ماكن ونور الدين قصباوي وناصر خمير وسونيا ايشتي وحسن الخلصي وعبد العظيم عبد الحق وغيرهم... وقد احتضن فضاء مدار قرطاج مساء الخميس 11 أكتوبر 2018 العرض ما قبل الأول لهذا الفيلم الذي تمت معالجته ورقمنته بالتعاون مع شركة سينماتاك البلجيكية بحضور مخرجه ناصر خمير الذي جاء مرتديا السترة نفسها التي مثّل بها في «الهائمون» منذ ما يزيد عن 30 سنة.
عالم عجائبي مفعم بالرمزية
يُشرع لنا فيلم «الهائمون نافذة على عالم أسطوري وعجائبي ترقص فيها الخرافة على نخب الحقيقة ويطارد فيه الخيال الواقع... فإذا نحن أمام شاشة مربكة بتأرجحها بين الوهم واليقين، الميتافيزيقيا والفنتازيا، المنطق والسحر...
في مشهد افتتاحي يلوح لنا شاب نحيل مسافر على متن حافلة مهترئة في حيرة من أمره يبحث في ما حوله ومن وراء النافذة المطلة على الصحراء الممتدة بلا أفق عن إشارة ما ترشده إلى وجهته وهو الذي يسأل عن مكان القرية التي عيّن فيه معلما. أبدا لم يكن يعلم هذا الزائر الجديد أنه يقصد قرية الألغاز المسكونة بالأوهام والمعتقدات والمحكومة بالأسرار والخرافات... التي قد يوجد فيها كل شيء إلا المدرسة !
في أسلوب الحكايات الشيّق، يضعنا ناصر خمير شيئا فشيئا أمام التيمة الأساسية للفيلم ألا وهي فكرة الهائمين في الصحراء بما هم شباب القرية الذين أصابتهم اللعنة فتاهوا بين كثبان الرمال في رحلة حلّ وترحال لا تنتهي ولا تعرف لها خاتمة. وكأننا بالمخرج قد أضفى على هذه العقدة القادحة للأحداث رمزية حيرة الإنسان وقلقه الوجودي في اكتشاف الذات وبحثه عن إجابات حارقة عن الهوية والمصير والمآل... فإذا بفيلم «الهائمون» يلوح لنا تارة في شكل قصيدة صوفية وتارة أخرى في ثوب أسئلة فلسفية معلّقة!
حتى وإن ظهر المعلم «عبد السلام» في صورة مختلفة عن أهل القرية سواء على مستوى تفوّق مستواه العلمي أو في شكل لباسه العصري مقارنة بأزيائهم التقليدية، فإنه بدا عاجزا عن تخليص القرية من أسر الخرافة ووهم الأسطورة وفك غشاوة الجهل والتسليم بالمعتقدات فإذا به يصاب باللعنة التي حلّت بالقرية فيختفي دون أثر!
أمام هذا الاختفاء يحضر رجل الأمن للتحقيق في الحادثة فيجد نفسه في دوامة من الإجابات غير المنطقية والتفسيرات الميتافيزية فيقرر المغادرة متوّعدا بنسف هذه القرية «العابثة بهيبة الدولة» بعد أن فشل بسلطة القانون الصارم الذي لا يعترف سوى بالأدلة العينية في فكّ شيء من ألغازها المحيّرة وأحداثها الأسطورية !
بطولة الطفولة ولغة سينمائية ساحرة
أمام شاشة فيلم «الهائمون» تتسمر أنظارنا ويسافر خيالنا مع أحداث وتناصات واستعارات بدت وكأنها هاربة من كتاب «ألف ليلة وليلة» لتروي لنا حكايات لم تروها شهرزاد لشهريار!
في توليفة ساحرة لا يعرف أسرارها سوى صانعها ناصر خمير تتكثّف الرموز إلى حدّ إرهاق العقل في محاولة فك شفراتها... هي تشكيلة جمعت في آن واحد طائر البراق والسندباد البحري وأبيات الشعر الصوفية والبئر المسكون بالجن والرسوم الأمازيغية وأسطورة المرايا المكسورة والإشارات المبهمة والإيماءات السريالية... فإذا بنا نغرق في بحر من الأسرار والألغاز ولا نستطيع الخلاص إلا بإشارة من المخرج بأن الفيلم قد انتهى.
في حبكة ساحرة وفريدة من نوعها ولغة سينمائية زادها النص الشاعري والموسيقى العذبة سحرا وغموضا، يتخذ المخرج من الطفل «حسين» حجر الزاوية في الفيلم وهو الذي جاء محرّكا للأحداث ودافعا بها إلى الأمام بخلقه للحيوية في المكان وتمرّه على صمت القرية المستكينة إلى استسلامها وتسليمها بالأقدار. ومع خطوات هذا الفتى الضاربة في الأرض بقوة وهي تسابق الزمن من أجل اكتشاف أسرار القرية وتفكيك لغز الرجال الهائمين... يقترب الفيلم شيئا فشيئا نحو النهاية فتتضح لنا مقاربة المخرج المتفردة في طرحها والمدهشة بتقنياتها فإذا به يوّزع علينا رسائل ووصايا بعدم الاستسلام إلى الأوهام والقدر المحتوم كما سطرته الأساطير والمعتقدات السائدة... وإن بكى فيلم «الهائمون» الأندلس التي أضاعها العرب ورثى حدائق الأندلس التي فرّط فيها أهلها... فإنه دعانا إلى عدم البكاء على الأطلال بل إعمال العقل والعلم لتجنب الانزلاق إلى المصير نفسه.
في «الهائمون» يفوح عبق الحضارة العربية الإسلامية ويلوح الموروث الشعبي بكل أساطيره وخرافاته ومخاوفه... لكن هذا الفيلم وإن جاء حافلا بسحر الشرق فهو في عمقه وجوهره يتسع لكل الحضارات والشعوب طالما أنه يقتفي أثر الإنسان الهارب من قدره والفارّ من تعاسته إلى سعادته، من ضعفه إلى قوته، من أمله إلى ألمه... ويبقى «الهائمون» فيلما أكبر بكثير من محاولات التوصيف والتبسيط والتفكيك لأنّه بكل بساطة أيقونة سينمائية عالمية.
«الهائمون» يحصد 20 جائزة عالمية
يعود إلينا فيلم «الهائمون» محمّلا بالجوائز والتتويجات منذ صدوره إلى حين تصنيفه مؤخرا ضمن «الكلاسيكيات السينمائية العالمية»، وهو الذي حصد باقة مهمة من الألقاب على غرار جائزة لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة العمل الأول في أيام قرطاج السينمائية سنة 1984، والجائزة الكبرى لمهرجان القارات الثلاث السينمائي بمدينة نانت الفرنسية خلال السنة نفسها. كما توج بجائزة أفضل صورة سينمائية سنة 1985 بمهرجان أواغادوغو السينمائي (بوركينا فاسو). وفاز سنة 1985 بجائزتين في مهرجان فالنسيا السينمائي بإسبانيا هما جائزة « النخلة الذهبية » وجائزة لجنة التحكيم الخاصة بالنقد السينمائي...