طواحين الهواء على شاشة الصور المتحركة...وعشقناها كبارا رمزا للحلم والطموح والحرية وهي تتراءى لنا خيالا جامحا في صفحات الروايات وشخصية ثائرة على ركح المسرح وبطولة جامحة في السينما... فإذا ببيت الرواية يجلب لنا «دون كيشوت» إلى مدينة الثقافة، وإذا بالروائي الكبير واسيني الأعرج يحدثنا عن هذه الشخصية، الرمز فيوّرطنا أكثر في عشق هذا العالم السحري والمثير...
هنا، في مدينة الثقافة كانت الأجواء «دون كيشوتية» بامتياز وقد احتفت كل الأقطاب الفنية من مسرح وسينما وموسيقى وفنون تشكيلية... برواية «دون كيشوت» للكاتب الاسباني «ميغيل دي سرفانتس» في سياق تظاهرة فنية ضخمة بعنوان «دون كيشوت في المدينة: ضرورة الحلم». وقد كان اللقاء يوم أمس مع الروائي الجزائري واسيني الأعرج في حديث عن «دون كيشوت والحداثة الروائية».
سرد للذكريات وعودة إلى البدايات
على ضفاف الذكريات وما علّق بالذاكرة من تفاصيل الطفولة وأحلام الصبا وبدايات العلاقة مع الكتابة... كان لقاء « الإمتاع والمؤانسة» مع الروائي الشهير واسيني الأعرج في دعوة من «بيت الرواية» وقد برّر مدير البيت كمال الرياحي هذه الاستضافة باعتبار أن صاحب «على خطى سرفانتس» من أهم الكتّاب اهتماما برواية «دون كيشوت» وهو الذي جاءت رواياته ثرية بالتناصات التي تحيل على هذه المدونة الخالدة في التراث الأدبي العالمي باعتبارها الأكثر شعبية في التاريخ. كما أشار الروائي كمال الرياحي إلى أن أب الرواية التونسية البشير خريف قد سار على خطى دون كيشوت أيضا في روايته «برق الليل».
في استفزاز للذاكرة حتى تسترجع ذكريات تعود إلى زمن بعيد، إلى سنوات الطفولة تحدث واسيني الأعرج فقال: «في قريتي الحدودية بالجزائر والقريبة من المغرب كنا نتعلم موادنا المدرسية باللغة الفرنسية وكان لنا معلم بارع يملك موهبة الحكّاء يدرسنا نصوصا عن «دون كيشوت» باللغة الفرنسية، فإذا بي أنجذب إلى هذا العالم السحري وبدأ عقلي الصغير يبحث عن همزة وصل بين هذه النصوص وتلك الحكايات التي كنت أسمعها في الأسواق الجزائرية أين كانت تصحبني جدتي للاستماع إلى حلقات الحكواتي التي بدت لي امتدادا وتواصلا لما قرأته في المدرسة عن «دون كيشوت». ومن هنا نشأت قصة حبي للكاتب الإسباني «سيرفانتس» التي بدأت ولم تنته...».
لولا الجدّة لكان واسيني الأعرج مهربّا...
وبتأثر كبير وامتنان عظيم تحدث واسيني الأعرج عن فضل جدته في نحت ملامح شخصيته الروائية التي لولاها لكان مهربا على الحدود أو فقيها على حد قوله. وهي التي حدثته طويلا عن أصله الموريسكي وجده الأندلسي الجذور الذي هاجر بلده لأنه رفض البقاء في بلد أحرق مكتبته وحثته على أن يتعلم اللغة العربية حتى يشبه جدّه الأندلسي . ولما كانت اللغة العربية ممنوعة في الجزائر لأسباب استعمارية وحتى عنصرية، لم يكن أمام واسيني الأعرج الصبي سوى الالتحاق بـ «الكتّاب» لتعلّم القرآن ومن ورائه اللغة العربية إرضاء لرغبة الجدة. يقول ضيف «بيت الرواية»: « شيئا فشيئا تعلقت بدرسي في «الكتّاب» سيما ذلك الكتاب الذي كان ملقى في الزاوية في حالة رثة ولشدة التصاقي به اقترفت لأول مرة في حياتي ذنب السرقة فإذا بي أخبئ هذا الكتاب الذي كنت أظنه مصحفا في ثيابي وأركض به إلى البيت لأمضي الساعات الطويلة ممدا على بطني على الحصيرة القاسية الملمس مستمتعا بهذا العالم الجميل. وفي مرة زارنا قريب لي يقطن في المغرب فإذا بجدتي تحدثه بفخر عن حفيدها الذي يقرأ المصحف لساعات وساعات فأخذ كتابي بين يديه وسألني باستغراب ما الذي تقرأه فأجبته ببراءة الأطفال: قرآن، فصرخ في وجهي قائلا:»يا حمار هذا كتاب ألف ليلة وليلة وليس بمصحف».
آثار «دون كيشوت» في روايات واسيني الأعرج
ما بين الروائي واسيني الأعرج والكاتب الشهير «سرفانتس» ليس مجرد علاقة ورقية أو روائية وطيدة بل هي أكثر من ذلك حيث قضى الإسباني «ميغيل دي سرفانتس» صاحب رواية « دون كيشوت» حوالي خمس سنوات بالجزائر موطن واسيني الأعرج انطلاقا من بيعه فيها أسيرا بسوق العبيد وصولا إلى بلوغه الحظوة في قصر الحاكم العثماني. وهنا يقول واسيني الأعرج متحدثا بحسرة: « للأسف أضاعت الجزائر فرصة ثمينة في تثمين هذه الفترة المهمة التي قضاها «سرفانتس» في الجزائر حيث كان من الممكن إحداث مسلك ثقافي وسياحي وحضاري يربط بين مختلف الأماكن التي مكث بها «سرفانتس» بالجزائر انطلاقا من إرساء مركبه بالميناء مرورا ببيعه في سوق العبيد وصولا إلى انتهائه عند قصر الملك. ولكن لا شك أن هذا المقترح سيواجه بالرفض عند السلطة وحتى السخرية !»
وفي مزيج من الطرافة في الحديث والتشويق في السرد على شاكلة الرواة الماهرين، أمتع واسيني الأعرج الحضور طيلة ساعتين برحلة رائقة وراقية متبّعا فيها بصمات «دون كيشوت» في رواياته ومقتفيا آثار «سرفانتس» في كتاباته متوّقفا على ملامح هذا الحضور في آثاره: «حارسة الظلال» و«البيت الأندلسي» و«الأمير» و«سيرة المنتهى...».
وعن أسرار الكتابة، كشف واسيني الأعرج أن الثقافة وحدها لا تكفي بل لابد من رائحة مميزة تفوح من بين السطور حتى تعلق بالذاكرة. واعتبر أن «الحرب الكبرى التي يخوضها الكاتب هي ألاّ يكرّر نفسه ونصه..».