فهو كالمتصوفة في سؤاله الإبداعي المتجدد وبحثه الدائم عن جمال دفين في ثنايا المجهول... ولا يلبث هذا الفنان أن يعتكف في محراب الفن بعضا من الأيام وأحيانا من السنوات حتى يطل على جمهوره وفي جرابه الجديد الذي لا يشبه أحدا غيره.
في تجربة «مخضرمة» الفنون تنوعت إبداعات فاضل الجزيري ما بين مسرح وسينما وموسيقى وحتى رسم، فإذا به يصافح عشاق موسيقاه بعرض «الحضرة 3» وفي الآن ذاته يتجاذبه الفن السابع لاستكمال فيلمه الجديد «القڤيرة» ليكون خاتمة ثلاثيته السينمائية بعد «ثلاثون» و«خسوف».
بين دفتي حديث عن الفن والشأن الثقافي وبوح بهموم الفنان وهواجس الإنسان... كان هذا اللقاء مع المخرج المسرحي والسينمائي فاضل الجزيري.
• لننطلق من الراهن ومن معطيات المرحلة الآنية، كيف تقيّم الوضع الثقافي في تونس اليوم؟
لا يمكننا أن نقرأ الوضع الثقافي بمعزل عن الوضع العام للبلاد، وهو في الحقيقة واقع صعب ومضطرب... وليس حال الثقافة سوى صورة وانعكاس لوضع تونس اليوم.
• ألا ترى أن افتتاح مدينة الثقافة وما وفرته من أقطاب فنية وأنتجته من تظاهرات ثقافية... قد بعث شيئا من الحركية في جسد المشهد الثقافي التونسي؟
طبعا، يعد افتتاح مدينة الثقافة مكسبا وطنيا وإضافة حقيقية للقطاع باعتبار أن هذا الفضاء يحتوي على باقة متطورة تقنيا وفنيا من قاعات سينما ومسارح وأوبرا... في زمن أصبح فيه شح الفضاءات الثقافية معضلة كبرى. صحيح أنه على المستوى الكمي أصبحنا نعيش زخما هائلا من العروض والمهرجانات والأنشطة الفنية والثقافية... ولكن على الصعيد الكيفي يبدو لي أننا لم نبلغ بعد مرحلة النضج في ما نقدمه للجمهور ولازالت أعمالنا تتخبط في بحر مضطرب من الانفعالات والهواجس والأحلام في محاولة لرصد اللحظة الحاسمة في تاريخ البلاد التونسية ما بعد 14 جانفي 2011 وكتابة كل هذه التحولات فنيا...
• ألا ترى أن الثورة التونسية بكل ما حملته من آمال وأوهام وأحلام... لم يرافقها مشروع ثقافي حقيقي. فممّن يأتي التقصير هنا، هل مرده غياب إرادة السلطة أو استقالة النخبة؟
أعتقد أن المشروع الثقافي يتطلب وقتا ومجهودا كبيرا وصبرا طويلا... وتأسيس هذا المشروع هو أولا وأخيرا مسؤولية الفنان والمثقف. من جهتنا نحاول بكل ما أوتينا من إصرار وإمكانات أن نقدم تصورات وكتابات وإبداعات تكون في مستوى الانتظارات وتواكب الحراك الذي تعيشه البلاد، ولا زلنا على هذا الدرب نسعى دوما إلى الأفضل. ولكن من المؤسف اليوم أن نرى النخبة المثقفة تهاجر وترحل عن البلاد ومن المحبط ما تنقله الإحصائيات من أرقام مهولة عن هجرة الأدمغة والحال أن هذه النخبة هي العمود الفقري للبلاد! كم نحن في حاجة اليوم إلى نخبة فاعلة ومؤثرة كما سبق وأن كانت النخب هي قادة رأي عام في الخمسينات. ولا يمكن أن نقصي في هذا السياق دور السلطة أو الإرادة السياسية في إرساء مشروع ثقافي حقيقي يكون جزءا لا يتجرأ من الشأن الوطني. فلولا إيمان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بدور الثقافة لما شهد المسرح مثلا ما شهده من انتعاشة في عصره... ولولا انجازات وزير ثقافة بقيمة الشاذلي القليبي لكان وضع ثقافتنا أتعس بكثير!
• لماذا فشلـــت تونس في إرساء دعائم الصناعات الثقافية... هل تعوزها التصورات أم تنقصها الإمكانات؟
الاثنين معا. إن تحقيق هذا الشرط يستوجب توفر طرفي هذه المعادلة، فضيق الحال ينتج عنه ضيق الأفق. نحن في حاجة إلى حكومة تكون فيها الثقافة ذات أولوية فتدعمها وتدمجها في عجلة التنمية حتى تصبح لنا صناعات ثقافية تساهم في دعم الناتج الداخلي المحلي على غرار الدول المتقدمة.
• لو كنت وزيرا للثقافة أو مسؤولا في الحكم وبيدك سلطة القرار، ماذا كنت ستسارع بفعله لصالح القطاع الثقافي؟
ربما كنت سأقوم بتشجيع الخواص من أجل بعث مشاريع ثقافية ذات صدى فعلي ومردودية ملموسة. ولأن المال هو قوام الأعمال، فلابد أن نخلق موارد مختلفة لدعم الإبداع وأن نشجع الثقافة كما نشجع السياحة من خلال توسيع السوق والانفتاح على العالم ودول الجوار. وأعتقد أنه انطلاقا من الثقافة المحلية يمكن أن نعانق العالمية.
• وهل حاول الفنان فاضل الجزيري أن يدلي بدلوه في بناء هذه المرحلة الجديدة من تاريخ بلادنا ونحت مستقبل تونس ؟
كل أملي في هذه الحياة أن أورث الفن إلى الأجيال القادمة... ولهذا سأشرع في بناء مسرح في جربة وتحديدا في أجيم يتسع إلى حوالي 3000 مقعد لاستقطاب جمهور معين وهم حرفاء النزل بصفة خاصة من خلال محاولة تعريفهم بالوجه الآخر لتونس وعمقها الثقافي عن طريق عروض مرنة التمرير وسهلة الاستيعاب...
• كم كلفة بناء هذا المسرح بجربة ومتى سيكون جاهزا لاحتضان العروض... وهل كان من السهل إيجاد مصادر تمويل؟
مبدئيا ستكون كلفة هذا المسرح في حدود 25 مليون دينار. وفي الحقيقة سيتخذ هذا المشروع صيغة المركب الثقافي بعد أن حلمت بتشييده منذ أكثر من 14 سنة. أما عن مصادر التمويل فعن طريق شراكات مع مجموعة من البنوك اقتنعت بالمشروع فلم تبخل بتمويله ومن المنتظر أن تنطلق الأشغال خلال أسابيع.
• هل معنى ذلك أننا سنربح باعث مشاريع ثقافية أم سنخسر فنانا مبدعا... أو سيكون لنا الاثنان معا؟
إجابتي في نهاية سؤالكم. والدليل على ذلك أن إدارتي لشركة «الفيلم الجديد» لم تمنعني من مواصلة مشواري الفني في السينما والمسرح والموسيقى.. وها أنا اليوم أقدم عرض الحضرة في نسخته الثالثة.
• في سياق «الحضرة 3» التي تصافح بها جمهورك في سهرتين متتاليين ضمن سهرات مهرجان المدينة، إلى أي مدى يغيب التكرار ويحضر التجديد في هذا العرض الموسيقي؟
الحضرة 3 هي اجتماع الذّكر والمديح في حلقة مرتّبة صفوفا تفتح وتختم بالاسم...أناشيد تؤدّى بصوت خفيف فثقيل...تهويد ترخيم فترجيع مديح يتضمّن ما فيه الحبّ والهيام والموت واللّحد والقيامة والجنّة والنّار... رقص واهتزاز حتّى بلوغ الوجد. وهي أبدا لا تشبه الحضرة في نسختها الأولى والثانية ولن تكون مكررة بل متجددة كتجدد المعنى والفكرة.
• حوالي 28 سنة تلازم «الحضرة» بمختلف تسمياتها وتجلياتها مسيرة الفنان فاضل الجزيري، لماذا هذا التعلق والوفاء للنمط الموسيقي الصوفي؟
لأني وجدت في الموسيقى الصوفية عالما غير متناه وغير مكبّل بالحدود... كل مرة أقرأ نصا صوفيا إلا وأجد فيه معنى جديدا وأعثر على حلقة مفقودة. ومن هنا، أسعى إلى مشاركة جمهوري هذا الاكتشاف من خلال إعادة كتابة لهذه النصوص وتطويع الآلات الموسيقية لاقتسام لحظة المتعة والنشوة بالفن مع الجمهور الذي أجده في كل مرة متعطشا لهذا النوع من الموسيقى.
• ما بعد «حضرة» فاضل الجزيري تتالت التجارب التي تنهل من الموروث الموسيقي الصوفي... فهل تعتبر أن “الحضرة” هي الأصل والباقي تقليد؟
ليست الموسيقى الصوفية حكرا على أحد بل هي مجال خصب للاستلهام... يبقى الأهم أن يكون الإبداع ميزة هذه العروض والبقاء في ذاكرة الجمهور سيكون لمن يترك أثرا عصيّا على النسيان.
• لنرتحل من الموسيقى إلى السينما... فهل سيكون فيلمكم الجديد»القيرة» حاضرا في أيام قرطاج السينمائية ؟
إن مرحلة ما بعد التصوير هي المرحلة الأصعب في مسار الفيلم السينمائي. من المنتظر أن يكون فيلم «القيرة» جاهزا للعرض بمناسبة الدورة 29 من أيام قرطاج السينمائية. في «القيرة» تحذير من الاستبداد وتنبيه من تغوّل الديكتاتورية التي يمكن أن تقلب رأسا على عقب مسار الثورات المنادية بالديمقراطية... هي السياسية في مكرها وخداعها وأقنعتها في سبيل كرسي الحكم.
• على أنقاض مسرحية «صاحب الحمار» كانت ولادة فيلم «القيرة»... فهل هو ثأر بعدسة السينما عن «فشل» المسرحية على الركح؟
صحيح بأن عدم نجاح مسرحية «صاحب الحمار» التي أخرجتها بعد الثورة جعلني أفكر في تحويل هذا النص المسرحي إلى عمل سينمائي، ولكن إنجاز هذا الفيلم بالنسبة لي هو هاجس فني ونداء واجب تجاه الوطن.وفيلم «الڤيرة» ليس قراءة خطية للتاريخ بل هو اشتغال على أحداث تاريخية وإعادة كتابتها وفق مستجدات المرحلة اليوم . فلاشك أن العلاقة بين «ثورة صاحب الحمار» في التاريخ البعيد وثورة تونس 2011 هي علاقة تقاطع حيث تتشابه الأسباب وتتقارب النتائج ما بين دروس الماضي وعدم اتعاظ الحاضر.
• ما بعد «القيرة»... ينشغل المخرج فاضل الجزيري بإعداد فيلم عن «فرحات حشاد» ، فإلى أي مدى سيتقاطع الروائي مع التاريخي في هذا الفيلم ؟
في هذا الفيلم تناول لرمزية الشهيد وطرح لفكرة الاغتيال السياسي وبحث في الخيوط التي تحركها في إسقاط على حاضر البلاد واستشرافا لمستقبل تونس.سيقتصر هذا الفيلم الروائي الطويل على 5 أشهر فقط من حياة المناضل فرحات حشاد وذلك من تاريخ 14 جويلية 1952 إلى فاجعة اغتيال حشاد في 5 ديسمبر 1952. ومنذ 3سنوات وأنا أحاول رفقة الكاتبة المبدعة عروسية النالوتي وضع سيناريو مناسب لهذا الفيلم الذي يتناول شخصية تاريخية من منظور الفيلم الروائي.
• هل تتابع الدراما الرمضانية التونسية... وكيف تقيمها بعين الفنان ورجل الكاميرا ؟
في الحقيقة انشغالي بالتحضير والتمرين للعروض الأربعة لشركة «الفيلم الجيد» ضمن مهرجان المدينة أخذ مني كل الوقت. ولكني أستعد لتصوير مسلسل عن شخصية الدغباجي ولازلت في مرحلة الكتابة بالتعاون مع الأديب حسونة المصباحي للانطلاق بعدها في التصوير والبحث عن شراكة مع إحدى التلفازات التونسية ليرى هذا المسلسل النور ولا يبقى سجين الدرج المغلق.
• سبق ان انخرطت في حزب»نداء تونس» فهل انقطعت علاقتك بالسياسة واكتفيت بدور المراقب من بعيد؟
انسحبـــت مـــن السياسة أو من الانتماء إلى حزب سياسي بعد أن اختلطـــت الأوراق واضطربت التوجهات... ولكني لم انسحب من متابعة الشأن السياسي.
وأعتقد أن مهمتي السياسية انتهت مع الانتخابات الرئاسية 2014 بصعود المشروع الحداثي على سدة الحكم حتى لا تفقد تونس خيارها التقدمي والحداثي... ولكن مهمتي الفنية متواصلة وهاجسها خدمة تونس إلى نهاية العمر.