مسرحية صابرة لمكرم السنهوري: «اعفس على الشوك وتمرّد راك تونسي»

عن الذاكرة نتحدث، عن الحب نروي ونكتب، عن الوطن نحبكُ أجمل القصص وأحلى الشذرات، عن قوة الصحراء وجمال حكايتها وسحرها واسرارها

نكتب عن تونس تكون الحكاية، حكاية كتبها أبناء دوز وعلى الركح جسدوا حكايتهم مع الام الصحراء فالصحراء هي الأنثى، وما الأنثى إلا وطن، لذلك يعشق الوطن كما يقول إبراهيم الكوني.
عن الذاكرة ابدع الناصر بن عون في الكتابة وقدم للجمهور نص مسرحية «صابرة» ، سينوغرافيا الفنان التشكيلي شرف الدين بنعلي وألحان الموسيقار الحبيب مدس وإدارة إنتاج ومساعد مخرج الفنان منصور الصغير و تمثيل الناصر عبد الدائم و بلقاسم بلحاج علي ورماح السنوسي وسلوى الشيباني ومحمد الأزرق و مكرم السنهوري وهادية عبيد و محب الصغير و عماد بناجي ولطيف بنعمر وفي الإدارة التقنية كل من توفيق الصغير و الكيلاني فرج

الحب اجمل وقت الحرب
الحب حياة وامل متجدد الحب قنديل يضيء الأرواح المظلمة ويسكنها بطاقة استثنائية لتنحت في الصخر وتقاوم الظلام، وحب «صابرة» (رماح السنوسي) زرع في «بشير» فارس النجع (مكرم السنهوري) القوة ليصعد الجبل ويحارب ظلم المستعمر وجبروته، عن الحب زمن الحرب، او الحب وسط صوت البارود ورائحة الخيانة يستمتع المتفرج بأرقّ عبارات الغزل والعشق، غزل باللهجة العامية لسكان الجنوب، تلك اللهجة ذات التأثير والسحر المميز على كل من يسمعها ،نصوص الناصر بنعون والكلمات الغزلية تذيب جليد الروح وتكسر الصمت وتحطم جبروت البارود أحيانا.

الى العام 1881 تعود الحكاية، تحملنا الذاكرة الى السنوات الأولى لدخول المستعمر الفرنسي الى الأراضي التونسية، قد يساوم الباي وقد يستجيب لطلب السلطة الفرنسية ولكن هناك في الأعماق بعيدا جدا عن الحاضرة في «نجع» رضع ابناؤه العزة والشموخ لا يعرفون معنى المساومة ولا الاستسلام، هناك في «النجع» تكون الحياة طبيعية حد مجيء «نذير شؤم» من الباي يخبرهم بوصول المحلة وعليهم دفع الجزية، جزية ماذا؟ عن حياتهم في البراري؟، ام جزية عن عطش الصحراء وقساوتها؟ ام جزية عن حياة هادئة بعيدا عن صخب الحاضرة وضوضائها؟.

هناك في الصحراء يعيش اهل النجع، القصة تبدو بسيطة في ظاهرها فهي حكاية فارس اضطر لترك حبيبته والصعود الى الجبل لينضم الى «الفلاّقة» ولكن في باطنها الكثير من التضحية، عن الحب زمن الحرب عن أهمية الحب عند الانسان وعن دور الحب في تزويد الانسان بطاقة هلامية يتحدث العمل عن «صابرة» التي صبرت امام قساوة الدهر وكانت سندا لحبيبها، عن المرأة التونسية المقاومة والمناضلة تتحدث صابرة.

صابرة هي الصحراء، صابرة الوطن، صابرة الام والحبيبة، صابرة هي التونسية التي تدفع مشاعرها الصادقة ثمنا ليستطيع حبيبها فداء الوطن بدمائه، عن صابرة التي ضحت بالسعادة لأجل الوطن يتحدث العمل وعن قوة المرأة التي عاشت فقط ليلة «العمر» الوحيدة مع حبيبها كتب الناصر بنعون اجمل الاشعار، صابرة ذاكرة، صابرة شعلة حب لا تنطفئ فـ «الحب صغير يصمد امام نداء الوطن والذود عن سيادته، غير ان حب الوطن والعشق أقوى من سياط الجلادين، فينتصر الحب على الكراهية، وينتصر النور على الظلمة، فيولد كل يوم وطني جديد، أسميناه في مسرحيتنا فجر الوليد المحرر المريد و حامل راية الاستقلال التي نريد»، على حد تعبير مخرج العمل.

المرأة كما الصحراء تلهمك الحياة
 هنّ الشجن، هنّ الامل هنّ الصدق ، كما افروديت الهة الجمال كانت صابرة، تشبعت بعشق الصحراء وتعلمت منها القوة لتنحت لنفسها قصة توارثها المخيال الشعبي الجنوبي، المرأة كانت مكرمة وحاضرة بامتياز في مسرحية صابرة لفرقة بلدية «دوز»، المرأة كانت سند الرجل فهي «بارود المقرون» كما تقول صابرة في العمل.
عن الصحراء يقول إبراهيم الكوني الصحراء هي الجدة التي ربتني وهي التي روت لي وهي التي دفنت في قلبي سرها ولهذا عندما أتحدث عن الصحراء أشعر بأن الصحراء مسكونة، أشعر بأنني مسكون بالصحراء، يعني لست أنا من يسكن الصحراء ولكن الصحراء هي التي تسكنني لأن في الصحراء فقط يتجسد مبدأ وحدة الكائنات» وعن الصحراء تدافع المرأة وتساند الرجل في نضاله ضد المستعمر وتحثه على الثورة بالقول «اعفس على الشوك وتمرّد».

في «صابرة» الكلمة الشعرية ميزة العرض، ديكور بسيط فقط «بئر» موضوعة في الركن فلا وجود لنجع وقوة دون سيادة مائية، حول البئر تنسج قصص العشق والخيانة أيضا.
في صابرة المرأة ليست مهمشة، لها حق القرار ولها حق ابداء الرأي في شؤون القبيلة، في «صابرة» ابدعت رماح السنوسي التي تصعد للمرة الأولى على الركح، مبدعة اثبتت ان المرأة التونسية لبؤة وتونس «ولاّدة».
صابرة هي تونس، صابرة هي الام والحبيبة، منذ الاسم نعرف اننا امام ملحمة تتطلب الكثير من الصبر، ملحمة خوض الحرب والنجاح فيها حرب شعارها تونس «الأرض التي تلم وتحضن أولادها».

المسرح تاريخ والفلكلور جزء من الذاكرة
«صابرة» مسرحية تاريخية عنوانها النبش في الذاكرة وتقديمها الى الجيل الجديد بأسلوب سلس وبسيط، بعد مشاهدة العرض سيخرج المتفرج بكم من المعلومات ربما نسيها في الدروس الرسمية، هي قراءة كلاسيكية لحدث تاريخي مهم وهو معاهدة باردو وما تلاها من ثورة شعبية وطنية، في «صابرة» يرصد المخرج ردود فعل قبائل الجنوب على المعاهدة ورفضهم الخضوع لقرارات المستعمر، فيقررون الثورة والاحتماء بالجبل، صابرة ربما تحمل المتفرج الى العام 1881 ولكنها تحدثه عن الراهن، فكم نحن محتاجون لتلك الوحدة التي نشاهدها في العمل، كم نحتاج ليكون الهدف الاسمى هو الوطن لا الحسابات الشخصية، وطن يجمع كل المواطنين دون تفرقة حزبية وطن يختاره ابناؤه ويكتبون تفاصيله كما كتب بشير ملحمته.

في صابرة للكلمة وقعها، الموسيقى لها حضورها المميز نص شعري يُمتع الاذن ويثلج الروح، موروث شفوي لجهة دوز يجده المشاهد في عرض مسرحي ملحمي اتحدت فيه الموسيقى مع المشهد المسرحي، عمل ينبش في الذاكرة الجماعية التاريخية و يحفر في الذاكرة الشفوية للمحافظة على تراث بدأت ملامحه تغيب.
في صابرة يتم تدوين الموروث الشعبي من أغاني و أشعار و حكايات الأجداد و أساطير البادية التونسية، من خلال تصويرها ونقلها من عرض مسرحي فرجوي جمع الشعر والغناء البدوي واهازيج سكان الصحراء والمسرح، وهو ذلك ما يساعد على حفظها حية نابضة بالديمومة و الحركة و يساعد على بثها أمام الناس و إذاعتها بصورة كبيرة، «صابرة» عمل ذو

وجهين.. وجه اول يبحث في تاريخ البلاد غير المكتوب وثان يقدم الموروث الشعبي الشفوي ومحاولة ارشفته فالذاكرة جزء من الهوية والتراث الشعبي لجهة الجنوب ذاكرة أجيال قدمت الكثير لوطن اسمه تونس.
صابرة عمل جنوبي الهوى والروح والتقديم، صابرة يجسد دوز وحكاياتها وموروثها، حين تشاهد «صابرة» ستعايش حكايات اهل الجنوب اللباس التقليدي «الحرام والبرنوس واللحفة» جميعها اثثت لديكور عرض تونسي بامتياز.

صابرة عمل مسرحي يعرف بجهة دوز وتاريخها مسرحية تختصر الماضي وتقدمه في عرض شعري مبهر، صابرة عرض مميز نجح في كسب ثقة الجمهور وابدع الممثلون في تجسيد النص الشعري للناصر بن عون.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115