الهياكل الدينية وكان صوت الطبل الكبير بألق يعني دعوة الآلهة لأن يفرض هيبته على سكان الأرض لكي يسمعوا صوته ويخشعوا لسماعه لأنه الملهم لسائر أعمال كذلك هو عند نصر الدين الشبلي للطبل مكانته المقدسة والاستثنائية مقارنة بكل الالات الموسيقية.
وكما كان السومريون يخصصون للطبل الكبير المقدس الذي لا يفارق الهيكل حارساً برتبة كاهن عظيم يعمل الشبلي على ان تكون الطبلة حارسة للتراث ولايقاعات تونسية منسية يريد ارجاعها الى الحياة وفي عرضه «فلاقة» تكون الطبلة عنوان للتونسيين المنسيين، عنوان لموسيقى تحفظها الذاكرة الشعبية يسعى الشبيل ومجموعته الموسيقية للمحافظة عليها وتقديمها في صورة اجمل دون المس من الاساس عرض قدم ضمن فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان الابداع الذي ينظمه الاتحاد العام التونسي للشغل.
الطبلة صوت المنسيين فانصتوا
ظلام يلف المكان، فشاشة عملاقة صورة للجبال الخضراء والجرداء، تنتقل الكاميرا وكأنها تحمل المتفرج ليكتشف اغوار تلك الجبال، شاب (نصر الدين الشبلي) يقف امام نصب تذكاري للشهداء، يقرأ الاسماء ربما يستحضر بعضها التي تناولها التاريخ الرسمي للبلاد، موسيقى قوية تشويقية ستجعلك تتساءل عن سببها، فجسد يختبئ بين الأشجار تقترب الكاميرا تدريجيا لتجدك أمام شخصية الفلاق (خالد اللملومي)، تتواصل الرحلة داخل الجبل يتحادثان، عن تونس حتما، ضحك وصرامة في نقاش بينهما ثم يلبس الفلاق حفيده حزاما ليدخل بعدها الشبلي الى الركح حاملا الة الطبلة الكبيرة رسم عليها باللون الاحمر الخمسة او يد فاطمة ويضرب الطبلة خمس مرات في اعلان عن بداية الرحلة او الحرب فصوت الطبلة كان كما وقع الرصاص في المعارك التي احتضنتها جبال تونس.
اصوات الجمهور ترتفع لترحب بضيوف الجريد، صوت الطبلة يعلو فوق كل الاصوات صوت هادر مرتفع لمدة دقيقتين تكون الطبلة الكبيرة و البندير والدربوكة يعانقون الجمهور، فقط الايقاعات هي المغناة، نغمات مرتفعة وكأنها صرخات احد االفلاقة يقول ماقاله الشابي:
يا ايها السادر في غيّه يا واقفا فوق حطام الجباه
مهلا ففي انّات من دستهم صوت رهيب سوف يدوي صداه
الطبلة وإيقاعاتها كانت عنوانا للثورة الداخلية، عبر الطبلة كتب نصر الدين الشبلي صرخات الفلاقة ونقل حكاياتهم وجزعهم على وطنهم، بالموسيقى رحل بالجمهور الى سواكنهم و شواغل نفوسهم وكانت الطبلة صوتهم وانينهم وعنوانا لثورتهم وقوتهم رغم قلة عددهم امام جند المستعمر، الطبلة كانت عنوانا للحياة وحبا للوطن ينقله الجد الى الحفيد، نداءات الفلاقة تمت الاجابة عنها باغنية».
«فلق يا فلاق» اغنية تتحدث عمن صعدوا الجبل لافتداء الوطن «فلق يا فلاق يا طالع الجبال، نادي يا رفاق ماني براني، نا فلاق زماني، صوّب عليّ خاينا، صوّب عليّ سارقنا»، اغنية تكون فيها موسيقى الطبلة كصوت الرصاص ورائحة البارود، في فلاقة تكون الطبلة سيدة الموسيقى، عرض موسيقي جمع ألوانا مختلفة من الفنون فحضرت السينما والموسيقى والمسرح، جميعها وظفها نصر الدين لشبلي لتقديم عرض يغوص في الموروث الموسيقي والذاكرة الجماعية التونسية.
لساعة وأربعين دقيقة احتفى نصر الدين الشبلي بالطبلة والفلاقة بطريقة مميزة، بالأغاني التونسية التي تخلد لشهداء الوطن تغنت الة الطبلة بالدماء الطاهرة والأرواح الثائرة الرافضة للظلم والجبروت.
فلاقة العرض المشروع والذاكرة التي لا تموت
فلاقة امام جمهور توزر كان عرضا جد متكاملا، للمرة الأولى بعد قرطاج والحمامات يستمتع الجمهور بعرض فلاقة كاملا، دون نقصان، للمرة الاولى يشاهدون الفيلم القصير والدخلة الاصلية للعرض موعد مع عرض تونسي الروح والتقديم دامت مدة البحث لانتاجه اربعة اعوام، فلاقة ليس مجرد عرض موسيقي بل هو مشروع متكامل يعمل عليه نصر الدين الشبلي للبحث في الموروث الموسيقي التونسي والإيقاعي تحديدا.
في الذاكرة الجماعية يكون البحث من خلال تقديم موسيقى الصالحي والاعتماد على الة الطبلة والبندير والدربوكة، آلات ايقاعية لا يخلو منها نغم او ايقاع تونسي، ففلاقة عرض العودة الى الجذور والكشف عن تراث شفوي منسي، عرض تعامل فيه الشبلي مع اشهر «وزاني» الفن الشعبي على سبيل الذكر جلال الشواشي و السويح ومحمد الباجي وزغدود.
في فلاقة يكون اللقاء مع اغان يحفظها التونسي، اغان ذات نفس ثوري ومتمرد ولعل اشهرها « الخمسة اللّي لحقوا بالجرة ملك الموت يراجي» الاغنية التي تتحدث عن القائد والشهيد محمد الدغباجي، له ولرفاقه كانت التحية من ابن تونس العاشق للموسيقى ولآلة الطبلة التي كرّمها لتكون سيدة المقام، الدغباجي ورفاقه استحضرهم نصر الدين الشبلي في عرضه الذي نبع من بحثه في الايقاعات التراثية.
في العرض مجموعة من الاغاني الاخرى التي تتغنى بخصال «الفلاقة» ومن حملوا السلاح ضذ المستعمر، اغان تكون فيها الة الطبلة هي الاساس ثم الة المزود التي تقدم بعض الشجن والوجيعة، وجيعة المنسيين والمهمشين ووجيعة من تناساهم التاريخ الرسمي فقط الذاكرة الشفوية لازالت تردد أسماءهم، لهم غنوا « عيني رات خيال» و«صياد صيودة» والخمسة الي لحقو بالجرة» .
في العرض ايضا عمل الشبلي والمجموعة الموسييقية على الاختلاف في طريقة تقديم الاغاني التراثية فهناك اغان تختلف طريقة غنائها وإيقاعها من الشمال إلى الجنوب على غرار اغنية «عالجدي الريم» التي تغنى في الجنوب بايقاع بطيء وحزين اساسه الناي، اما في الشمال فيكون الايقاع سريعا مصحوبا بالة المزود.
في عرض «فلاقة» يؤمن الشبلي ان الموسيقى واحدة أما اللهجات فتختلف، فنان يؤمن انه دون التجذر في الهوية الموسيقية التونسية لا يمكن للفنان ان ينجح عند الاخر، وفي «فلاقة» تكون الانطلاقة من الموروث التونسي ثم التجديد باضافة آلات اخرى، ففلاقة عرض اساسه الطبلة والآلات الايقاعية عرض يقوم على 13وزان ومزود وزكرة، تتماهى مع الات اخرى على غرار الوتر و الالات الغربية مثل الكلافيي والقيتار باص والقيتار الالكتريك جميعها تتغنى بتونس بهويتها وجذورها الموسيقية.
في «فلاقة» تنقلب المفاهيم الموسيقية فالسائد والموجود هو اعلاء قيمة عازفي الالات الوترية والغربية امام «الطبّال والزكار» في حين في «فلاقة» يكون العكس، يعطي الشبلي القيمة للزكار والطبال ليكونوا الاساس، وبذلك تكون فلاقة في الموسيقى أيضا، هو عرض أساسه التمرد على السائد.
«فلاقة» عرض تونسي لشاب تونسي اختار الايقاع اختصاصا ، اشتغل على الفن الشعبي التونسي وانكب على الذاكرة الشعبية لتقديمها حتى لا تندثر وحتى لا تنسى، عمل على موروث تونسي ومن خلاله قدم عرضا مميزا استطاع من خلاله افتكاك التانيت البرنزي في أيام قرطاج الموسيقية ليؤكد ان الفن التونسي والكلمة التونسية تشد الانتباه وتقنع الاذن موسيقيا وفلاّقة رمز للموسيقى المميزة.
«فلاقة» هو عرض موسيقي فرجوي يدوم ساعة وأربعين دقيقة، يضم حوالي أربعين عنصرا من عازفين ومؤدّين وراقصن وممثلين من خيرة الطاقات بالبلاد التونسية العرض المشروع يسعى إلى إحياء الذاكرة الشعبية والمحافظة على الموروث الموسيقي التونسي بأغان وإيقاعات تخاطب أحاسيس المتلقّي وتوقظ فيه مشاعر الفرحة وتحثه على الدّفاع عن ثقافته والتشبث بها وذلك باستعمال الة الطبلة اساسا.
«فلاقة» عرض متجدد كلما شاهدته اكتشفت مسحة من التجديد اما باضافة بعض الالات مثل القمبري الذي يحضر في عروض ويغيب في اخرى، او في الاغاني المقدمة وطريقة توزع العازفين على الركح، عرض تونسي الروح والملامح يؤمن ان التراث التونسي عنوان للتميز والنجاح والتقدم .