منبــر: عزلة الشاعر التونسي

بقلم الهادي إسماعلي
مخفورا بكثير من الألم وقليل من الإحباط، أهجس بيني وبيني، وأنا أتفرّس واقع الشعر التونسيّ المعاصر وأتشوّف إلى منزلة شعرائنا بين شعراء العالم، بأسئلة مزعجة مُمِضّة: لماذا يظلّ الشاعر التونسيّ طيلة مسيرته مجهولا مطموس الهويّة ضمن خارطة الشعر العالميّ؟ لماذا لا يعرف «الآخر» مشرقا ومغربا شعراءَ تونس؟ لماذا لاتُدرَّس نصوص التونسيّين في بلدان

الجوار تماما مثلما نحتفي في مدارسنا وإعداديّاتنا وثانَويّاتنا وجامعاتنا بشعراء المشرق والمغرب؟ لماذا لم تحرّكنا ريحُ عَولَمَة الشعر العاتية؟ لماذا جعلت منّا العولمة الثقافيّةُ كائنات مستهلكة لا مستفيدة، ولم تزرع فينا الأمل بقدرما ورّثت فينا الألم؟
ما أفظع هذه العزلة المقيتة الّتي أذاقت الشاعر ألوانَ الإبعاد والإنكار ! علينا أن نتّخذ مسافة نقديّة لنصارح ذواتَنا بحِدّة العزلة الّتي يعيشها الشاعر التونسيّ اليومَ والّتي جعلت منه كائنا مَقصيّا وصوتا محظورا. ما أكثف العزلةَ حوله: عزلة مسلّطة من الخارج فرضها الناشرون والموزّعون والنقّاد خذلوا الشاعر وقصّوا أجنحته الّتي تتوق إلى السفر بالصوت التونسيّ بعيدا إلى كلّ الأوطان، وعزلة نابعة من الذات بشهوة مازوشيّة، يصنع الشاعرُ لنفسه عزلةً إلكترونيّة في جزر تواصليّة تلقي به في هوامش الشعر والفانطازما الكاذبة، فضلا عن تلك العزلة الناتجة عن اعتزال الخطاب اللغويّ لسائر الخطابات الجماليّة الحافّة بالقصيدة في ضرب من الوثنيّة الّتي تقدّس الحرفَ وتقصي بقيّة الفنون لتنتهي بالشعر خطابا متحجّرا معزولا عن قارئه.

وقد يعجب بعضُ من ليس له بالواقع ا لشعريّ صلةٌ مباشرة، من مزاعم العزلة ويحصرها في باب التقوّلات المجانيّة والادّعاء، والحال أنّه باستثناء أصحاب المآدب الشعريّة الّذين نجحوا في فكّ عزلة نصوصهم بتسويقها بعلاقات خاصّة مع دول الجوار في إطار الاستيراد والتصدير الشعريّ، وباستثناء أولئك الّذين رسّخوا سُنّةَ تبادل الزيارات وبطاقات الدعوات وتذاكر الطائرات في سياق تمتين أواصر الثقافة بين البلدين الشقيقين، أو تلك الشخصيّات الأدبيّة الخبيرة في تمثيل وجه الشعر التونسيّ تمثيلا بروتوكوليّا رسميّا في المحافل الدوليّة، باستثناء هؤلاء يبقى الشعراء التونسيّون كائنات كرطونيّة مغمورة بكثير من التجاهل وقليل من التعاطف، تتلحّف النسيانَ ولا تبرح محلّيتها الضيّقة، حسبُ هؤلاء الشعراء أن يتلذّذوا بنشوة انتشار أشعارهم السريع بين أفراد عائلاتهم وبمجاملات زملائهم في العمل.

وإذا رُمنا تشخيص داءِ العزلة، راعنا أنّ الأغلبيّةَ الغالبةَ من المنشورات الشعريّة التونسيّة يصدرها أصحابها على نفقاتهم الخاصّة نظرا للاستقالة التامّة لدور النشر والتوزيع وقلّة مواردها وافتقارها للحِرَفيّة اللازمة وغياب المردوديّة الماديّة للشعر التونسيّ مقارنة بكتب الجنس والتصوّف وجلب الحبيب، حتّى تحوّل المشهدُ الشعريُّ إلى ما يشبه دكاكينَ الانتصاب الفوضويّ، وأصبح ترويجُ الديوان الشعريّ تجارةً موازية، والشاعرُ تاجرَ حقيبةٍ جوّالٍ يعرض منتجاته بشكل مبتذل، متمسّحا على أعتاب المدارس في موسم الجوائز مُختلقا الابتسام ردّا على ألوان الصدّ والتسويف وتمطيط الشفاه ورفع المعنويّات في أحسن الأحوال، فتنشأ العزلة من ذلك الإحساس الباطنيّ عند الشاعر باللاجدوى واللامعنى.

ولا تسَل عن العزلة النقديّة الّتي أسكنت الشاعرَ التونسيَّ قارّةً مجهولةً يكتب فيها متحرّرا من كلّ ألوان الضغط حتّى غرقت كتاباتُ الكثيرين في بحر من الأخطاء اللغويّة والسقطات العروضيّة والتشوّهات التصويريّة، والحال أنّ الناقد مشغول إمّا بالإخوانيّات الضيّقة واقتسام الكعكة مع شعراء مكرَّسين تربطه بهم رابطةُ الجهة والقبيلة، وإمّا بالقراءة على الأموات من الشعراء ينتظر أن يموت الأحياءُ ليمدحهم، حتّى صار الموت عند شريحة واسعة من الشعراء أملاً حقيقيّا، وهذه لعمري العزلةُ في أظهر تجلّياتها.

إلاّ أنّ العزلة الّتي فرضها أباطرةُ النشر والتوزيع والنقد تظلّ عزلة مسلّطة من خارج الإبداع، ليست أعظم خطرا من العزلة الّتي يسيّج بها الشاعرُ نفسَه بنفسه. إذ نجزم بشيء من التردّد أنّ فئة غير يسيرة من الشعراء التونسيّين تجتاح العالم الافتراضيّ وتبحر على النت يحدوها أملُ فكّ العزلة، تخال أنّها بعلامات الإعجاب الّتي تحصدها مكافأة على النصوص الّتي تنشرها بسخاء على صفحات التواصل الاجتماعيّ قد ضمنت الانتشار وخرجت من شرنقة العزلة. والحال أنّ منهج هؤلاء الشعراء يقوم بمفعول عكسيّ يجعل للشاعر أجنِحة من شمع تعرّضه للسطو والمهاترات الّتي لا طائل منها، وتسجنه في متاهة من العبث تزيد في تعميق عزلته.

والأمثلة أكثر من أن تُحصى في الساحة الثقافيّة التونسيّة لشعراء شُبّهَ لهم أنّهم ينتجون أدبا رقميّا كفيلا بفكّ عزلتهم، والغريب أنّهم لم يفارقوا المجال الالكترونيّ. بل جُلّهم لم يلتحموا بسيبرنيطيقا الأدب الّتي تنتج نصّا مشبعا بلحظة توهّج إدراكيّ واستثارة عرفانيّة مميّزة وفق قاعدة من الأنظمة البرمجيّة الّتي تحرّر الشعر من ربقة الخطاب اللغويّ المقروء وتفتحه على خطاب الصورة المتحرّكة وإيقاع الموسيقى المصاحبة للكلام ولعبة الأضواء والتعبيرات اللونيّة تتناغم جميعُها لتحلّق في أفق التلقّي ليصير الشعر نصّا حرّا محلّقا بين قُرّاء العالم، بنقرة واحدة.

ولعلّ أمرَ العزلة الالكترونيّة هَيّنٌ لأنّه من باب الصناعات الّتي تُكتَسَب بالدربة والمرانِ. خاصّة إذا ما قارنّاها بعزلة أخرى كامنة في طبْع الشاعر وفطرته تنسكب في مختبر نصوصه. وليس أدلّ على ذلك من أشعار غريبة عن ذاتها وعن موضوعها تطالعنا في بعض الدواوين الشعريّة الّتي تنجح نجاحا لغويّا متميّزا لكنّ قاعها العميق خاو وذاكرتها صمّاء. ولنَضرب مَثلَ الشعر التونسيّ الآخذ بموضة التصوّف يستجيب في أغلبه الأعمّ إلى مواصفات النصّ الصوفيّ العالميّ من حيث مفرداتُه غير أنّ عُمقه لا يشفّ عن معايشة خاصّة لفنون التصوّف ولا ينمّ عن التذاذ مخصوص بمحنة الأجواء الصوفيّة والتجارب المعروفة في الموروث الروحانيّ. والنتيجة مجرّد نصّ سياحيّ كتلك النصوص الّتي يكتبها الشعراء تغنّيا ببعض المدن الّتي تستضيفهم وتغدق عليهم فائض كرمها من باب ردّ الجميل من دون حبّ صادق، فتطلع الكلماتُ ميّتةً موؤودة مثل الأزهار البلاستيكيّة.

لقد علّمتنا العلومُ أنّ كلَّ خليّةٍ هي عبارة عن نواة ومحيط. وقياسا على ذلك، تموت الخلايا الشعريّة لاقتصار الشعراء على اللغة باعتبارها نواة الشعر، في مقابل إغضاء الطرف على الفنون الموسيقيّة والمسرحيّة والتشكيليّة الحافّة بها المتفاعلة معها.

يذكر درويش أنّه لمّا كتب عن الأندلس لم تفارقه موسيقى الفلامنكو وأصوات القيتارات والكمنجات الغجريّة، وأنّه لمّا كتب نصّه الشهير عن الهنود الحمر فتح شعرَه على عالم الهنود وعاشر أجواءهم معاشرة صرفا وتغذّى بخُطَبهم وبلاغتهم وفنونهم حتّى خرجت هذه النصوص الشعريّة من عزلتها طافحة بحرارة الصدق الفنّي.
إنّ عزلة الشاعر التونسيّ عن الآخر وعن ذاته وعن ثقافته، بضغوط خارجيّة مسلّطة من خارج الإبداع وأخرى داخليّة نابعة من رؤيته للعالم وتصوّراته الذاتيّة للأشياء، هي أمّ القضايا اليوم في هذا العالم المتحوّل. ومن ثمّ يمسي انتشالُ الشاعر التونسيّ من هذه العزلة حاجة ملحّة تتطلّب وعيا شاملا من طرف جميع مكوّنات المشهد الثقافيّ وإرادة فعليّة مشتركة للتغيير.

بقلم الهادي إسماعلي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115