«عائشة والشيطان» « سينوغرافيا فرجوية و احتفالية قوامها المتعة والفائدة»

بقلم: فاضل موسى
من النكت الشعبية المصرية المأثورة، أن عبد الناصر ذهب لأداء فريضة الحج، والتقط سبعة أحجار ليرجم بها الشيطان، لكنه ألقى بست فقط واحتفظ بالحجر السابع. وعندما سئل عن السبب : قال : «مفيش داعي نقطع كل الخيوط مع الشيطان»، يمكن نحتاجه.

و كأن الكاتب والصحفي والمثقف اللامع المنصف بن مراد يؤكد هذا الاحتياج في الميدان الثقافي، وتحديدا في الفن الرابع، بإقحام هذا اللعين وان كان افتراضيا كعنصر أساسي في مسرحيته «عائشة والشيطان». وعلى عكس ما يوحي به موضوعها ، وهو «الصراع بين الفكر الحر والظلامية»، فان المسرحية تستأنس بالهزل الشعبي، والسخرية في وصف الواقع ، كما هو معهود لدينا، وكما تبرزه النكت المصرية والتونسية والعربية عامة والمحبوبة لدى شعوبنا. وهذه المرتكزات حاضرة ضمنيا في روح نص المسرحية، والذي ليس فيه من نيل القيم الدينية أو الأخلاقية، إذ هو جزء من الثقافة العامة المنتشرة في البلاد، وممارسة لحريات الفكر والإبداع والخيال الشعبي، والهادفة إلى «تعرية الواقع قصد تشخيص عيوبه وإيجاد الحلول المناسبة له»

كما أن المسرحية، رغم عمق وجدية موضوعها، تتجاوز المعنى الدرامي الضيق، إذ خيمت عليها أيضا مسحة كوميدية، فكانت تجمع بين الجد والهزل من خلال النص الممتاز لمؤلفها، و من خلال لمسات مخرجها المسرحي القدير محمد كوكة، و من خلال أداء ممثلين بارزين على غرار دليلة المفتاحي، وفؤاد ليتيم، ووحيدة الدريدي، وصلاح مصدق، وليلى الشابي ، و محمد قريع، و كل من صعدوا على الركح وجنود الخفاء الذين يستحقون الثناء والتقدير كذلك.

إن هذه «المسرحية الفرجوية» كما نعتها مؤلفها، تندرج فيما يسمى بـ«الاحتفالية المسرحية» التي وقع تعريفها كـ « نظرية درامية وفلسفية تعتبر المسرح حفلاً واحتفالاً وتواصلاً شعبياً ووجدانياً بين الذوات، وحفراً في الذاكرة الشعبية، وانفتاحاً على التراث الإنساني، وبناء مركباً من اللغات والفنون السينوغرافية، التي تهدف إلى تقديم فرجة احتفالية، قوامها المتعة والفائدة، عبر تكسير الجدار الرابع الذي يفصل الممثلين المحتفلين عن الجمهور المحتفل بدوره».

وهذا «المسرح الاحتفالي»، وهذه المسرحية بالذات، يجوز وصفها بـ»فنتازيا»، نظرا للنيران التي أشعلت فيه، وتنوع كساء «الممثلين المحتفلين» والذي يفيد تداخل الأزمنة، والتعبيرات الجسدية إضافة إلى التعبيرات النصية، والحركيـــة التي لا تنقطع على الركح، بل تتجاوزه لفضاء المتفرجين أحيانا. وما يجب التنويه به هو أن هذا «المسرح الاحتفالـــي» وهــو الأصل، يعود من جديد بعد أن ترك مكانه للمسرح الفردي السائد اليوم والمحترم كذلك. فلم يتردد المخرج في تمكين الصعود على الركح لمالا يقل عن ستين من الممثلين، والراقصين، ومحترفي الألعاب السحرية والبهلوانية والسركية، وغيرهم، إناثا وذكورا أغلبهم من الشباب. وعلى هذا الأساس لاقت المسرحية استحسانا كبيرا من طرف الجمهور العريض الحاضر في المسرح الأثــري بقرطاج، ولمســـنا تفاعله الايجابي مع العرض رغم تدني جودة الصوت ، والخارج عن نطاق صاحب المسرحية، و الإطالة في بعض المشاهد والتي لم تنقص من قيمة العرض.

كما عبر عن نفس الإعجاب عديد الفنانين والمسرحيين الحاضرين والذين تحدثنا معهم في خاتمة العرض، وعلى رأسهم السيدة الفاضلة والممثلة القديرة منى نور الدين والتي، بعد تعبيرها وبدون مجاملة عن استحسانها للمسرحية ، لاحظت بكل لطف ما اعتبرته إكثارا نسبيا في إقحام عبارات عامية في نص وضع بالأساس باللغة العربية الفصحى، وان كانت مبسطة ومفهومة. و كنت شخصيا استحسنت كثيرا هذا المزج بين الفصحى المبسطة والمفهومة والكلمات والعبارات العامية التي يفاجئنا بها المؤلف، أو المخرج، أوحتى بعض الممثلين بارتجالاتهم من حين إلى آخر ، والتي كانت في محلها وتثير الابتسامة وحتى الضحك، علما أن من ميزات هذا المسرح هو ثراء لغاته اللفظية والحركية.

ولن أخفي سرا في كوني ترددت في البداية في حضور المسرحية لأنني لم أسمع عنها ثم أن موضوعها يتعلق بقضية صراع الفكر الحر والظلامية. وبكل صراحة هذه القضية رغم أهميتها لم تكن تتماشى ومزاجي في هذه الساعة، بعد أن رافقتني مدة طويلة، وحفظت كل أركانها عن ظهر قلب، والتي حسمها الدستور بتأكيده بقوة على الحرية عامة، وحريات الفكر والتعبير والإبداع خاصة، كما أن قناعاتي ثابتة . لهذا كنت أفضل أن أخصص أوقات الفراغ المتاحة للتسلية والترويح عن النفس ومتابعة تظاهرات ثقافية قد تثريني بمعارف أخرى. لكن في الحقيقية وعند نزول الستار راجعت ظني، وكنت ندمت شديد الندم لو لم أحضرها، وفوت فرصة للمتعة والفائدة. وبالفعل إن هذا العرض يمثل حدثا مسرحيا متميزا لتناوله قضية جدية بل مصيرية من زاوية طريفة و بأسلوب مرح وفرجوي وبكل ذكاء، والشيء من مأتاه لا يستغرب. هذه القضية التي والحق يقال، مازالت تطفو من حين إلى آخر على السطح، مما يؤكد مقولة أن الشيطان يكمن في التفاصيل، والتي ما زالت سترافقنا، وان للعمل المسرحي دور هاما لتنسيب أهميتها، ودرء مخاطر استعمالاتها. فهل سعى بن مراد على عكس عبد الناصر لرمي الحجر السابع، قطعا لكل الخيوط مع الشيطان، أم هي ليست إلا توارد خواطر بينهما وعن بعد في المكان والزمان والغاية ؟ إن هذه «السينوغرافيا» عودة واعدة «للمسرح الاحتفالي» في بلادنا، وهي قابلة للتصدير و أعمال مسرحية كهذه جديرة بكل التشجيع والمساندة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115