قبل ست سنوات من الآن، وقبل هروب «بن علي» التحقت بالشارع مجموعة من المثقفين والفنانين التونسيين في تجمع أمام المسرح البلدي في قلب العاصمة معلنة تضامنها المطلق مع الاحتجاجات الثائرة والمظاهرات الغاضبة التي شهدتها البلاد في ذلك الشتاء الساخن من أواخر عام 2010 وبدايات سنة 2011.
في سنوات الجمر وفي عهود القهر تجرّأ عدد قليل من المثقفين والفنانين على لعب دور المثقف العضوي الذي ينتصر للحقيقة ولا شيء غير الحقيقة في تعفف عن التمعش من موائد السلطان وحرق الفكر بخورا على أعتاب أهل التاج... وبعد الثورة، ارتخت القبضة الحديدية واضمحلت الرقابة الديكتاتورية بعد أن كان المكسب الكبير هو حرية التعبير. فلم تعد النصوص تقرأ بعيدا عن أعين السلطة، ولم يعد الفن الملتزم والمقاوم يُمارس بعيدا عن أنف السلطة ولم يعد الكلام يقال بعيدا عن أذن السلطة ... وبفضل نسائم الحرية في هذه الثورة أصبح الفنان حرّا في ممارسة فنه دون موانع أو إيماءات أو تعليمات ...فكان الإسهاب والاطراد والاسترسال في تناول حدث الثورة في المسرح والدراما والسينما والأدب إذ تم إصدار 288 كتابا عن الثورة خلال ست سنوات. لكن هذه الحرية حسب أهل المهنة سرقت بدورها ذلك البعد الإيحائي والرمز المشفّر ومتعة تمردّ القول المبّطن في رسالة الفنان لتسقط الكثير من الأعمال في فخ المباشرتية المملة. وهكذا أصبح الفعل الثقافي والفني مرتبكا وحائرا في العثور على هويته ومقصده ولغته بعد أن فقد نشوة اللعب بالنار والاقتراب من منطقة الخطر في ملامسة الممنوع ولو من بعيد ...
بعد مرور ست سنوات على ثورة الياسمين، كثيرا ما تردّد الأبواق في خطب رسمية وشبه رسمية أن الثقافة هي الكلّ، هي المبدأ والقاعدة لكل إصلاح ... غير أن هذا الكلام الجميل في كل مرّة تذروه الريح لتعاقب الثقافة بميزانية هزيلة كُتب عليها أن تسجن في قفص الصفر فاصل منذ سنوات... وفي زمن ما بعد الثورة !
وفي أعماق تونس، لا يزال شعار اللامركزية الثقافية وحق الجهات في الثقافة يلتمس طريقه ما بين نيّة التطبيق وواقع التنفيذ... ولا تزال مطالب أهل الفكر والإبداع من منظومة تشريعية متكاملة تحمي الفنان وترتقي بالممارسة الثقافية قيد الانتظار إلى حين إشعار آخر...
وأمام سيطرة الأطياف السياسية والمجادلات الحزبية والاختلافات الإيديولوجية كثيرا ما يجد المثقف نفسه معزولا في الركن البعيد الهادئ ومستبعدا عن الإدلاء برأيه والقيام بواجبه في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ بلاده... ولهذا فإنّ محنة المثقف اليوم وبعد 6 سنوات من الثورة لا تزال متواصلة ومسيرته النضالية لم تكتمل بعد طالما أن الثورة غيّرت النظام ولم تغيّر المنظومة الثقافية والقيمية في المجتمع.
ألم يقل أحدهم:»المخلص والعادل والنبيل والإنساني وعاشق الطبيعة وغير الأناني والذكي من الممكن أن يبدؤوا ثورة ولكنها تفلت منهم، فهم ليسوا زعماء الثورة ولكنهم ضحاياها...»