مهرجان المسرح العربي: مسرحية "المؤسسة": اخراج عيسى الصنديد البحرين الانسان المعاصر محكوم بالأسى والسعادة جنونه الأجمل

اذا فتحت أمامك ابواب الفرح فلا تصدها، وإذا جاءتك تعاليم الخيال فانطلق إليها وإن كان والواقع أكثر ظلمة،

فالقليل من الفرح خير من لاشيء وبعض الحكمة أفضل من الاستكانة، "فالحكمة الحقيقية التي يمكن أن يحوز عليها كل منا هي عندما يدرك كم هو قليل ما يفهمه في الحياة، وفي ذاته، وفي العالم المحيط به" قولة لسقراط انعكست على مسرحية المؤسسة للمخرج عيسى الصنديد عن نص اصلي للاسباني انطونيو باييخو.

"المؤسسة" من تمثيل عمر السعيدي وزكريا الشيخ وعلي فردان وعبد الرحمان اسماعيل وعلي ابو ديب وكامل ابو سعيدي ويوسف عبد الله وعالية ابراهيم انتاج مسرح الصواري المؤسس منذ عام 1991 والمشتغل على مسرح التجريب وتمثل دولة البحرين في الدورة الخامسة لمهرجان المسرح العربي الذي تحتضن فعالياته سلطنة عمان.

جسد الممثل مساحة مخبرية للتجريب والتجديد

يحمل الممثل على عاتقه شيفرات العمل ورسائلها ويحاول تقديم افكار المخرج وكاتب النص المسرحي دون الخروج عن ذاته الابداعية الولادة والحاملة لكل معاني الانسانية والثقافية للشخصية المسرحية، اجساد الممثلين المطية الاولى لاستقراء مسرحية "المؤسسة" فالحركة الواحدة والمتكررة لدى الاجساد الكثيرة تحيل الى حياة مشتركة تجمع هؤلاء الشخصيات حد التناص في الحركة، للجسد لغته فهو بوابة اسرار القلب وحكايات الذاكرة وهو ما قدمه الممثلين في شخصيات تتحول الى ارقام بعضهم نسي اسمه لكنّ الرقم ثابت.
هم ذوات بشرية محبوسة في مكان ما، في بداية العمل يبدو انهم في مختبر للتجارب العلمية، حسب حديث "توماس" الى حبيبته عن ضحايا العلم وشهدائه، قاصدا فئران التجارب، لكن مع تقدم الاحداث والحكاية يكتشف المتفرج انهم محبوسون في زنزانة وأنهم اشباه انسان فجميعهم محكوم بالإعدام وما القصص والأفكار إلا من خيال توماس المصاب بالفصام حدّ اتهامه بالجنون من قبل رفاق الزنزانة، توماس شخصية محورية ابدع في المسك بمعالمها الممثل عمر السعيدي، الشخصية النبض في العمل، مصابة بالفصام لكنّها تعي بالحقيقة ايضا، فاخر جملة في المسرحية تنطق بها الشخصية ستكون " اذا جاء اجلنا فذلك لن يخيفني، سأبتسم حين اسقط ميتا، سننتظر موتنا او نقلنا الى زنزانات العقاب حيث النفق المرعب...للحرية".
تتشارك الشخصيات في الحركة، لغة الجسد تحضر بقوة في المسرحية فهي الصوت الأول لمعرفة خفايا الشخصية النفسية والاجتماعية، عبر طريقة الحركة يكتشف المتفرج مدى وجع الشخصية والألم الدفين الذي تحمله، حركات الاقدام البطيئة وكأنها مقيدة بسلاسل الى مكان ما، انحناءة الظهر وكأنه يحمل اوزانا ثقيلة، النظرات التائهة والملامح الباهتة كأنها لأشباه بشر وليست لاحياء جميعها تشير الى فضاء الحكاية، وتحيل الى القيد المفروض على الشخصيات، فهم بين جدران عالية في زنزانة معزولة عن العالم، السجناء السبعة يتشاركون مساحة العيش المظلمة.
وبين النص الاصلي وإنسان اليوم الكثير من التشابه فالمسرحية كتبت في فترة الحرب الاسبانية وهؤلاء السجناء يشبهون إنسان اليوم المسجون بين جدران الخوف والظلم، يشبه وجعهم وجع الاسرى الفلسطينيين في الزنازين الاسرائلية، يتماهون مع فكرة السجن في مفهومه النفسي وبعده الثقافي المفروض على الانسان المعاصر "العالم اصبح جنة يفرح لآلام ودموع الانسان، العالم أصبح جنة ولازال الانسان يبكي ويتألم" كما تقول احدى الشخصيات.
يعتمد الممثلين على أجسادهم لتكون الشفرة الأولى للمسرحية، يجربون الحركة والنطق ويتحول جسد الممثل الى الية يطوّعها المخرج كما يريد لتصبح حمّالة مبان ودلالات، جسد الممثل في مسرحية "المؤسسة" ينتصر للحركة وللغة الصامتة رغم وجود نص منطوق تبقى الحركة هي المسيطرة، لغة الجسد والتجريب معه وبه من الاهداف الاساسية التي يعمل عليها فريق مسرح "الصواري" المنتج للعمل، فالمسرح عندهم تجريب دائم وتكرار وبحث متواصل "نبدأ من المختبر والتجارب، نجرب أجسادنا دائمًا في تجربة العروض أو بدونها" حسب تعريف الموجود على موقع المسرح.

إذا وجدت السعادة فاقطفها فمن الجنون ان تظل تعسا

تصنع الاضاءة عوالم مميزة من خلالها يمكن الدخول الى آلام الشخصيات واكتشاف فضاء الحكاية، تكون الإضاءة صفراء مزعجة في مشاهد المحاسبة او الصراعات بين الشخصيات، تتحول الى زرقاء فاجعة في مشاهد المرض او الموت/ يسودّ المكان لحظة الإعدام، وتكون ارجوانية تحمل معها طيات الفرحة اثناء لقاءات الحب بين توماس وحبيبته "بيرتا"، فالإضاءة في "المؤسسة" جزء اساسي من عوالم الحكاية ومطية اخرى لقراءة العمل المسرحي وشجون شخصياته النفسية والدرامية.
تحفّز الاضاءة في بعض المشاهد ملكة الخيال وتجبر المتلقي على التزود بجرعة من الفرحة تماما كتوماس، فهو يتزود بالطاقة والابتسامة من لقاءاته مع حبيته، توماس الحالم بكتابة روايته والمنهمك دائما بلقاءاته مع سارقة القلب "بيرتا".
شخصية "توماس" المتحكمة في اغلب مساحات العمل قدمها الممثل عمر السعيدي وسبق وان فاز بجائزة أفضل ممثل عن دوره في المسرحية، عمر السعيدي المتمكن من آلياته الدرامية والقادر على التناص مع وجع الشخصية وأبعادها الى أقصى الحدود، ذهب بها إلى ابعد مناطق الفرحة في لقاءات الحلم، زرع من خلالها عالما أجمل يتخيله ويعايشه مع الشخصية فيفتح اليدين ويسمع صوت زقزقة العصافير ثم يمتد الجسد ليراقص الموج وأصوات النوارس فيكون حرا كما زوربا، ويشبه جسده الممتد والمنتشي ماردا للحرية ويقول " العالم جميل، تعجز الكلمات عن وصفه، يكفي النظر اليه"، فالحرية هاجس ازلي يسكن الانسان ومهما كانت القضبان شديدة والزنازين مظلمة يبقى للحلم منفذا وتظل الحرية الزاد الاول لاوكسيجين الحياة "العالم مدهش وهذه القضبان لن تحول دون ذلك".
تطرح مسرحية المؤسسة فعل الحرية في بعده الأسمى، وتعالج العديد من المواضيع المتصلة بواقع الإنسان نفسيا واجتماعيا وثقافيا، تنقل الاختلافات الموجودة بين البشر وان اجتمعوا في فضاء ضيق واحد ولكن تبقى الحرية دائما بكل أشكالها هي المنشودة، الحرية تصبح في مشاهد العمل تعبيرة موسيقى تعزف عبر النقر على المعالق وكؤوس الماء الحديدية، تتحول احيانا الى ايقاعات اشد قوة عبر ضربات الأقدام والأرجل على القاعة والخشبة، فالموسيقى توليفة إبداعية نفسية تعانق وجع الإنسان ومن خلال الإيقاعات الموسيقية يمكن التماهي مع الشخصيات والانسجام مع وجعهم وتناقضاتهم الكثيرة.
فالسينوغرافيا بأبعادها التشكيلية واللونية والصوتية اختزلت العديد من الكلمات وقرّبت للجمهور مناخات الحكايات وربّما دفعت بعضهم للسؤال عن قيمة الحرية اذا لم يستمتع بها وقيمة الخيال اذا لم يوظفه ليلوّن واقعه "بفضل توهماتك، جعلتني اتخيل، توماس انّك حي" وانا كذلك" جملة يقولها طوليو لتوماس بعد نعته دوما بالجنون.
اذا جاءتك الفرصة للخيال والحرية فعشهما واسرق كل لحظة سعادة، اذا جاءتك السعادة فأنسى الوجع والألم وادخل محراب الفرح لأنه الاصدق هكذا هي عوالم توماس الذي يعيش فصاما جعله يرفض واقعه المظلم والمقيد ليترع اخر مواز اكثر ضياء واملا، فهل توماس هو المجنون؟ ام المجنون من يرضى بالقليل والظلمة ويجبر روحه على الاستكانة؟ وهو ما ستعبر عنه الشخصيات "منذ وانا اتساءل ألسنا نحن المجانين الحقيقيين، اليس افضل لنا ان نشاهد تلفازا في كل مكان، ندخن السجائر، الاستماع الى اجمل واعذب موسيقى، نتصفح كتاب ونقرأ الروايات، عالم توماس حقيقي بالنسبة له، وان المجانين الحقيقيين هم نحن" فمن يرفض السعادة وان كانت وهمية هو المجنون حتما.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115