(1)
فْلنُـميز كَونيا و تونسيا محليّا بين أحلامنا وأوْهامنا.. بين المحْلوم بهِ والمقْدور عليه ...
حَضَارة حَاضِرنا قَذوفةٌ , - أو هكذا يبدو لي - لوّاحَةٌ بكلِّ أشْكال الشّرِ و «الشَرّ المحْضِ» وانْ هيّ تجَمّلَتْ على مَسْتوى الخِطاب , السياسي والديني والأخلاقي الإيطيقي والجمالي و الثقافي العام في العالم بأجمل القِيم , بفائض الحديث الدُونجواني الغِوائي عن « العَدل» , «الحرية», «الكَرامة» ,» التعايش السّلمي» , و«حق ّ الشعوب في تقرير المصير» والاحترام والاحتراميّة «لحقوق الإنسان» و«حقوق الحيوان» و«حقوق الشّجر» و«حقوق الحجر ...». هذه الإشادة بالإحترامية و«الرّسبكتبالية» لحقّ الكلّ في الحياةِ وحتّى في «الممات الـمُشرّف» الإسْتشفائي اللّطيف يُــقابلها مَنْسوب عُنْفٍ وعُنْفٍ مُبذّر غير قابلٍ للقياس . فلم بيق للمَجروحات والـمَجْروحين في ذَواتهم وأوطانـِهم غير المقاومة بـإشْهار الجسد للإحْتجاج والمقاومة ... الجسد الأنثوي - مثلا - عارٍ أمام أعين كاميراهات العالم في العالم المتحضّر الذي يـَزدادُ كل يوم قذارة وتقذّرا, كما فَعَلتْ تلك المرأة التي عرّت «عورتها» ونزلتْ الى الشّارع كما ولدتها أمّـها لتَكْتُب شعارا احْتجاجيا ضد الحرب على مُؤخرتها ... أوّلُ القِلاَعِ اُلْـجـَـسَد آخر القلاع الجَسَد .
(2)
حاضرُ الحَضَارَة المفْرطة في « الظّلام » و«التنوير» حاضرٌ جرائمي. وهذا الأمْر ليس بالحدَث الجديد . لقد كانت الإنسانية بثقافتها العنفية أحْرف «الحريّة والعَدل و السّلام والسّعادة» أكلتها غوائل الطّمع وأشْكال الجشع تُكْتَب تلك الكلمات في الأغْلب الأعم عندها إلاّ على بعْض الأضرحة والقبور. وان هيّ عبارة « سلام المقابر» في حاجة إلى المراجعة الأكيدة لأمر بسيط وهو أن المقابر ذاتها والجبانات أصبحت مساحات وساحات حرب ومواجهات ,الموتى قد لا يسلمون من الأحياء وان للموتى « ثارتهم » ... إذ ترتكب أفضع الجرائم وأشنع الإبادات باسمهم. كثرت الحروب بالوكالة . وتَنامَتْ سراطانيّا ما كنتُ أطلقتُ عليه «الذّكاء الإجْرامي » لم تَعْرف البشرية « كريمينالية - دموية » مثلما نعيش اليوم بشكل فرجوي . اصبحت الشاشات التلفزية مثلا مَساحات لتـَمْرين الأبْصار البشرية على تحمّل «الأشْنع» و «الأنْكى» و«الأفْضع» تحسبا للآتي الإرهابي الكوني اُلْـمُعَمم ولاقتناص الأموال حَلالها وحرامها ... بمصادرة الآذان والأبصار.
(3)
«يوم» الإنسانية إنما هو ابن أمْسِها البَعيدِ , الـمُتوارى عنها في كثبان صحَـارى ذاتـها ,حتى عن ذاكرتـها الواعيّة وما «مواسم الأعياد» عنْدها غير تَدْبير حَربيٍّ لـِمُصاوَلة ومُنَازَلةِ تَطاوُل النّسْيان منها عليها .. ومع ذلك تَنسى هي الإنسانية ما اُجْترحَتْ آناء ليالي السِنين وأطراف نهارات القرون بعْد القرون, تَنْسى ما اُرتكبتْ من جرائم في حقّ نـَـفْسِها , حين انْشطرت على ذاتها بين قاتِلٍ وقَتيلٍ .. في الوطن الواحد وبين أهل الديانة الواحدة ... والمنتظمات الحضارية الواحدة ناهيك على «تحارب الأحزاب والأمم» ...
(4)
كم ينسى ويغفل « الأنا » الفردي أو الجماعي على بديهة أو بديهة أو ما يشبه البديهة وهو أن « الآخر» المختلف دينا ... ولونا وجنسا وجنسية وجهة هو ما كان يـُمْكِنُ أن أنْ يكون . وأن ذلك الجسد المحروق مثلا أو مفصول الرأس والأطْراف مثلا كان يمكن أن يكون جسدي وأن تلك المغتصبة والمرجومة أمام الجميع كان يمكن أن تكون شقيقتي في التراب والنشيد الوطني , كان يمكن أن تكون أختي ... كان يمكن أن أكون بوذيا وكان للبوذي أن يكون مسلما . كان يمكن للأمريكي أن يكون سوريا .. كان يمكن لليهودي أن يكون فلسطينيا ... كان يمكن لأحد «البيضان» أن يكون أحد « السودان » , كان يمكن للهندي الأحمر أن يكون مكان الذي اغتصب أرضه وذاكرته ...
ان استحضار مثل هذه الفرضية حول «الآخر» و«الآخريّة» .. والحب والغيرية الخلاّقة المرحة ضد تلك الغيرية الإلغائية بـإمْكانه أن ينسّب ذلك الإفراط المرضي في الحب المرضي للذات الغردية أو الجماعية الذي لا يتأسس إلا على إلغاء الآخر إلغاء عفويا أو مـمنهجا نسَقيا للآخر ..
وهو ما قاد تاريخيا نظام المحارق والمحتشدات. والثابت الرئيس وراء كل الحروب ببعدها المادي والرمزي انما هو «الطمع».. في اثبات الذات على حساب الآخر وهنا يضع الحق ..أمام القوة ّ وتنتصر «رغبة ملكية الأشياء» على احترام الذوات الحية انسانية كانت أم حيوانية ... وتهزم كل الحركات « الايكولوجية» البيئية والعاطفية رغم الجدّ والجهد والمواثيق الدولية.
(5)
يبقى «الطمع» والشراهة... و«غورموندوزيّة» الإستخواذ على حقوق «الآخر» حيّا في الوجود هي البوصلة والمحرار لكل الإتجهات والتوجهات العُنفية المحويّة الجارحَة لكل الجوارح ويبقى فعلا , وفعلا أوّلُ قِلاَعِ المقاومة اُلْـجـَـسَد ...و آخر قلاع المقاومة الجَسَد. الجسد الذي يستحيل سلاحا ,, انما هو الجسد/ البَدَن القُرباني ضد حضارة:
« الشّراهة والطّمع « التي لا تَعْترف بالحُدود, حدود جمع المال واكتناز الكنوز. أليستْ «عروس عرائس» الديمقراطية المحلوم بها _ بلغة القدامى
انما هيّ « الوعي بالحُدود « .
(6)
«أُهْدي إلى بعض الملوك - كما ما تقول الأوراق القديمة - قدحٌ من فيروز بجوْهر لا نظيرَ له ففرح به وقال لبعض الحكماء كان عنده : كيف تَرى هذا ؟ فقال أرى مُصيبةً أو فقْرا.قال الملك : كيف ذلك ؟ قال الحكيم : إن تلفَ كانتْ مُصيبة لا مـحير عنها وان سُرق صرْت فقيرا اليه ولم تجِد مثله وقد كنتَ قبل حَـمْـــله إليك في أمْنٍ من المصيبة والفَقر , ثم اتّفق ان انكسر يوما ذلك القدح من الفيروز فَعَظُمَ على الملك, فقال الملك : صدق الحكيم ليته لم يـَحْمل إليّ ...» ذلك ماورد في كتاب
« الدرّ المنضود في ذمّ البُخل ومَدْح الجود « المرفَق» بكتاب المــسْتجاد من فعالات الأجواد « لرفيق من رفاق عزلتي التنّوخي . قلت فيما يقول الذاهل عن نفسه: ما أفقر هؤلاء الأثرياء الذين عندنا تونسيا وكونيا وما أفقرني . كم نحن في حاجة الى ثورة حقيقة في الحبّ المرح , في الكرم, والكرامة ..
(7)
سوف أنامُ عاريا كما انــْقَذَفْتُ بمشقّةٍ منْ أرْحامِ بنت أحْمد أميّ...
ذات ربيع «بعمرة»..
كما قالتْ ليّ سِّرا السيدة البدويّة القابلة .
لاَ لأنيّ وحيدٌ سوْف أنامُ عاريا
ولا لأنْ لا أحد عيْنه عليّ
رتّبتُ كلَّ شيءٍ
(...)
أوْدَعتُ عائلة القططِ الموقّرة إلى ركْن دافئٍ في الحديقة
وعدْت لأواجه» نزلة البرد» وجْها بعريٍ سافرٍ
كأن أقول لها مثلا : لا ثياب عندي تنَامين بها ..
وعِظامي سَبقتك اليها نَزلة حبّ..
وهذه يا بنت الخريف الزائرة
مُكايدَةٌ مَرحِةٌ... لقَسْوَتكْ معي ليلة البارحَة
نامي إنْ شِئت نامي ..
وان شِئْتِ اسْهري كما أسْهَرْتـِني
نامي أو تنَاومي مثل عاشق فاشلٍ
بدُرجٍ ساخِنٍ في الثّلاَجَةِ
سوف تجدينَ هُناك قلبي
وهو المطلوب سَاخنا أو حَـجَرا أبْيض
كما الشّعوب المطلوبة للسّلْـخِ...
حيّة هي أو ميّــتَةْ.. لإخْلاءِ المكَان
لغُزاة قُدامَى جُدُدْ ...كمَا نَزْلة اُلْبردْ
فْلنُـميز إذن كَونيا و تونسيا محليّا بين أحلامنا وأوْهامنا.. بين المحْلوم بهِ والمقْدور عليه ...تذكرت بمرح طفولي ألكسيس زوربا . تذكرت العظيم نيكوس كازنتزاكيس وأغنية البحار الهندي :» آه فلتكن هذه أغنية حياتي ..أنا لا أطمع في شيء ولا أخافُ من شيءٍ ... أنا حرّ».