«لقد بدّلْتَ أهلاً بعْد أهلٍ
... فلا عجبَ بذاك ولا سخار
فإنّك لا يَضرّك بعْد عامٍ
... أظبيٌ نــاك أمّك أم حمار
فقد لحق الأسافل بالأعالي
وماج القوم واخْتلط النّجار»
(1)
وأنا أُمَارِسُ فعْلَ التّسَكّع بين «المتُون», بعْد تَعَب بَصيرتي وبَصَري عِنْد الفَجر التونسي من مُراجعة حوائجي الحِبْريّة أقْصُد «كتاباتي المشتّتة» و«حواراتي السّائبة», المتشرّدة هنا وهُناك في الصّحافة التونسية والعَربيّة, فتَحت مَكْتبتي الرّقمية لأتثبّت من تفاصيل وتوثيق «وقائع انتهاك جَسد الطّفولة والإنْــهِــمـام الشّبَقي... في التراث العربي الاسلامي» وهو عنوان مُـحَاضرة لي, كلّفتني الكثير من «التّقدير» من الطّلبة والطّالبات والكثير من « الشّتائم » من قِبل بعْض «العامة والعَوام » ,المنتسبين ظلما «لليـمين» و «لليسار» كذلك وأيضا والتّهمة من هنا وهناك: «التهتّك» و«الإباحيّة» و«النيْل من الأخلاق الحميدَة» و«السّقُوط في الميوعة» زيادة على أني أشْتغل بتدريس الفلسفة بروح مُـخْلِصَة مَا أمْكَنَ للذات السقراطية عالية الهمّة. الكتاب المبحوث عنه إنّـما هو « نُزهة الألْباب في مَا لاَ يُوجَدُ في كِتاب» لأحمد شهاب الدين التّيفاشي القفصي( 1184م-1253م ) صاحب رائعة « أزْهار الأفْكار في جَواهر الأحْجار» الحادثة . التي كنت أريد « التّدقيق والتّحقيق » فيها حول ما يمكن لي تسميته «حَلقة افتضاض الأطْفال » لتَدْريبهم بيداغوجيا تفاعليا على «الأبنة » واعدادهم « لحِرفة الغلمان...» من قِبل عارفٍ عالمٍ , تقني سام كبير, فَقيهٍ في اسْتعمال «القُطْن والزّعْفرانِ...», راسخٍ في المعرفة بالمؤخرات والأدْبار, عليم «بتأويل أبْدان الصّبيان». لم أجد الكتاب في « خزينتي الرقمية» ونتذكّرتُ أين هو «نائم » الآن وكيْف يمكن لي الظّفر به فشرعت في البحث عنه للتوّ, رَغم النَّصَبِ والتّعَبِ ولم يكن « الملاك الأنترناتي», «جوجل» «جِبريل الرّقمي», كما يـَحْلو لي أن أسـميه, لم يكُن بخيلا إذْ وضع الكتاب أمامي فقمت بتَخْزينه على عجلٍ كما عرض عليّ كتاب «النّصيحَة الولديّــة» , وصيّة , وصية بيداغوجية كان قد كتبها أبو الوليد سليمان الباجي, كتبها لوَلديْه وهو مُحدِّثٌ وفقيهٌ مالكي وشاعر وقاض أندلسي (1013م/1082م ).
شَرعْت في قراءة «الوصية الباجيّة» وتركتُ جانبا «كتاب النّزهة» لأن أثَــر أبي الوليد الباجي خاطب ذاكرتي فشرعت في أكله على طريقتي . فما الذي شدّني في هذه الوصية ؟ ما استوقفني انما هو تحْذير «الشّيبة» للشّبيبة من « الفلسفة» و«المنْطق» قبل ترْسيخ الايمان وعُموم «مواد العَقيدة». تحذيرٌ اسْتحالَ بفعل التقهقر الحضاري المكرور إلى خوف مرضي من الفلسفة , «فيلوسوفوبيا» للفيلوسوفوبيا تاريخ حافلٌ رافلٌ بحرْق الكُتب وقتْل وتشريد كُتابها وإذلالهم بنفيهم عن الأهل والوطن .. ولم يسلم من ناراتها وثاراتها ضد الإسْتعمال الحُر لملَكات التّفكير والتّدْبير حتى رائعة حجة اسلام الغزالي (توفي 1111م) موسوعته «احياء علوم الدين», ذاتها لم تسلم من الحَرْق والتّحْريق ... وفي الأندلس بالذات.
(2)
يتوجه خطاب الأب الفقيه ... القاضي , الـمُحَدّث والشّاعر بالخطاب إلى فلذَتَـيْ كبده قائلا بنبرة واثقة واضحة : « وإيّاكما قراءة شيء من المنْطق و كلاَم الفلاسفة فإنّ ذلك مَبْني على الكُفر والإلحاد والبُعد عن الشّريعة . وأحذّركما من قراءتها ما لم تقْرآ من كلام العُلماء ما تقْويان به على فهم فسادِه وضُعف شبهه وقلّة تحقيقهِ مخافة أن يَسبق الى قلب أحدكما ما لاَ يكونُ عنْدَه من علم ما يَقوى به عن ردّه ولذلك أنْكر جماعة العُلماء المتقدّمين والمتأخرين قراءة كلامهم لمنْ لم يَكُن من أهْل المنزلة والمعْرفة به خَوْفا عليْهم مما خوّفتُكما به.
لو كنت أعلم أنّكُما تَبْلَغَانِ مَنْزلة الميْزِ والقوّة على النّظر والمقدرة لَـحَضَضْتكما على قراءته وأمرتكما بمطالعته لتتحققا من ضعفه وضعفَ الـمُعتقد له, ورَكَاكَة الـمُغْترّ بِه وأنه من أقْبَحِ الـمَخَاريقِ والتّمْويهات و وجوه الحيّل و الخُزَعْبلاتِ التي يغترّ بها من لا يعْرفها ويستعظمها من لا يـُميّزها ولذلك إذا حقق من يعلم عن أحد منهم وجده عاريا من العلم بعيدا عنه يدّعي أنه يـَكْتـُم علْمَه وإنما _ هوّ_ يـَكْتـم جَـهْلَـهُ , وهو ينــمّ عليْه ويروم أن يستعين به وهو يُعينُ عليْه .» لا يكتفي أبو الوليد الباجي بتخْويف ابنيْه من الإشتغال بالفلسفة والمنطق تحديدا وإنما يذهب أكثر حين ينْفي عن أهله , أهل الأندلس المعرفة الحقيقيّة بحقيقة «الفلسفة» و«المنطق» أصلا اذ يقول حرفيا : «وقد رأيت في بغداد وغيرها من يدّعي منهم هذا الشأن مُسْتَحْقرا مُسْتهجنا مُستضعفا , لا يُناظره إلا المبتدئ وكفاك بعلم صاحبه في الدّنيا مرْمُوقٌ مَـهْجورٌ وفي الآخِرة مدْحُور مَثْــبورٌ وأما من يتعاطى ذلك من أهل بلدنا فليس عنده إلا اسمه , ولا وصل اليه إلاّ ذِكْـرُه ».
(3)
تذّكرتُ « محاكمة سقراط » والجُرْح السّقْراطي الذي أصاب سَلالته.. تذكّرت تهمة «الكفر والإلحاد» و«افساد الشباب», تذكرت كل اصناف المضايقات, وتذكرتُ جُرجي الشّخْصي حين اتهامي « بالإعتداء على الأخلاق الحميدة » و«بالرّدة والكُفر» من على أكثر من منبر, تذكرت الرّقابة وأدواتها من «مثقفي السلطان» الجبان... تذكّرت كل شُهَداء الفِكْر في كل «الحضارات» حين تشْرع تلك الحضارات في التّمْجيد الأعْمى للجُمود و»الذّْكر». تذكّرتُ أستاذي بالجامعة التونسية الرائع الراحل عبد المجيد الغنوشي يـَحُثني حثا على اعداد أطروحة دكتورا حول «العُزلة الفلسفية في الأندلس: قراءة جديدة في مُتون ابن باجة وابن طفيل وابن رشد «وكان «للإدارة التونسية» «الموْقورة» المبْقُورة الـمُوقّرة رأي آخر ... بلا أسف...اذ خاطبني أحَدهم حرفيا « ايها الجنوبي عد الى بلادك, تُونس ليستْ في حَاجة الى دَكاترة «..آه تذكّرتُ ذلك «السّي الزّكري», وكيف أتحفته على رأسه - في وزارة التربية حين أهانني بلهجته البلدية البليدة, أتحفته بقارورة « الكوكاكولا » التي كانت أمامه على مكتبه, ضَحكْتُ. أجّلْت التدقيق والتحقيق في كتاب « نزهة الألْباب في ما لا يُوجد في كتاب», مَسّني التّعَبُ فأردْت أن أُسليني بكتاب آخر ... وعَدَلْتُ عن نشر ورقتي الجاهزة الى فرصة لاحقة: ثقافة « التّقوى » والزّهْد في اُلْـدُّنيا.... و«البيدُوفيليا» والهُيام باُلْغِلْمانِ... (ولائمُ «المؤخرات» في واحدةٍ منْ أُمّهاتِ الحَضاراتِ).
(4)
قلبت ورقة من الجزء الخامس من كتاب «الفرج بعد الشّدة» للـــتنّوخي وأنا على قلق من غدي الشّخصي والجماعي في الجغرافيات الجريحة وإذا بي أقع على أبيات للشاعر الفارس القتيل لقيط بن زرارة بن عدس التميمي ( قتل سنة 35 قبل الهجرة ) . يقول الشاعر القتيل:
« لقد عِشْتُ في النّاس أطْوارا خِلَقٍ /
شَتّى وقاسيتُ فيها اللّينَ والقُطَعَا
كلا ًّ لبسْتُ فلاَ النّعْماء تُبْطرني /
ولا تخَشّعْتُ من لَأْوائـِها جَــزِعَا
لا يملأُ الهولُ صَدْري قَبْل وقْعتهِ /
ولا أَضيقُ به ذَرْعا إذا وقَــعَا
ما سُدّ لي مَطْلعٌ ضاقَت ثَنيّته /
إلاّ وجَدتُ وراء الضّيق مُتّسعا»
قلتُ لي قبْل أن أسلّمني للنَوم : يمكن للشّعراء المنْحورين والفلاسفة والمتصوّفة من ذوي النّفوس العازمة كما سواهم من أصحاب الهِمَم العالية أن يَشُدوا من أزر الحائرين مثلي فتكون إشارتهم وتنْبيهاتهم وتَلميحاتهم في تَلْويحاتهم هي الدّلالة والدليل , هي البوصلة رغم تباعُد الأزمنة والقرون ... فعلا , لعلّه «وراء الضّيق مُتّسعا» ولعلّنا بخير ولا ندري؟