غزة بين إعادة الإعمار والسيطرة: قراءة في خطة ترامب الجديدة

تقدمت الإدارة الأميركية بخطة من 21 نقطة لإنهاء الحرب

في غزة وإعادة بناء القطاع. في ظاهرها، تبدو الخطة استجابة عاجلة للأزمة الإنسانية، من خلال وقف إطلاق النار، الإفراج عن الأسرى، وبدء مشاريع إعادة الإعمار، لكنها في العمق تحمل أبعاداً سياسية عميقة تمس مستقبل غزة والقضية الفلسطينية بأسرها، وتعيد رسم التوازنات الإقليمية. فهي ليست مجرد وقف نزاع، بل محاولة لإعادة هندسة المشهد السياسي والإنساني في القطاع، لا من منطلق وضع حد للدمار، بل لاستعادة السيطرة والمبادرة بعد موجة الاعتراف بدولة فلسطينية.

أهم العناصر التي كشف عنها حتى الآن تشمل إطلاق سراح جميع الأسرى المحتجزين لدى حركة حماس، ووقف إطلاق نار دائم، وانسحاب تدريجي للاحتلال من كامل غزة، وإنشاء آلية حكم جديدة في غزة دون مشاركة حماس. تتضمن الخطة أيضًا تشكيل قوة أمنية مشتركة، تضم فلسطينيين وعناصر من دول عربية وإسلامية لم تحدد بعد، إلى جانب إشراك السلطة الفلسطينية في إدارة شؤون القطاع. فيما يتعلق بتمويل إعادة الإعمار، يبدو أنه سيقع أساسًا على الدول العربية، بشرط الحصول على ضمانات أميركية بعدم ضم الاحتلال لأي جزء من الضفة الغربية أو غزة، إضافة إلى إنهاء كل محاولات الاحتلال لتقويض الوضع القائم في المسجد الأقصى.

هذه النقاط، التي تُظهر ثلاثية مترابطة، الأمن، الإدارة، الإعمار، تكشف عن منظور أميركي لا يسعى بالضرورة إلى إنهاء الحرب بقدر ما يهدف إلى إدارة غزة وفق شروط ووصاية أميركية. فما تقترحه خطة ترامب هو صيغة لإعادة فرض السيطرة، لا تتجاهل فقط المقاومة وثقلها السياسي، بل تنكر كل المتغيرات الدولية ومساعي دول أوروبية لإحياء حل الدولتين. إنها إعادة إنتاج لاستراتيجية «الاتفاقيات الإبراهيمية»، التي تهدف إلى إقصاء الفلسطينيين من القرار، ونزع حقهم في تقرير المصير، وضمان عدم قيام دولة فلسطينية.

صراحةً، ما تسعى إليه الإدارة الأميركية هو منع أي تطورات سياسية ودبلوماسية تعيد القضية الفلسطينية إلى مربع الشرعية الدولية، وإبقاؤها ضمن إطار تفاوض ثنائي بين الفلسطينيين والاحتلال، بعيدًا عن أي ضغوط دولية أو التزامات قانونية. هذا النهج يعيد إلى الأذهان مسار أوسلو، الذي انهار بسبب المماطلة والتسويف، ويؤكد أن الهدف الحالي هو إعادة فرض التفاوض الثنائي مع تحييد المقاومة والفلسطينيين عن أي قرار مؤثر. والهدف هنا واضح وهو تكرار سيناريو اسلو، اي المماطلة والتسويف بهدف كسب الوقت لصالح الاحتلال الذي سيتحرك على الارض في اريحية في ظل هذا الغطاء السياسي لاستكمال سياساته الهادفة للقضاء على اية مقومات وشروط لقيام دولة فلسطينية.

كما ان الخطة تقترح أيضًا إشراف السلطة الفلسطينية على القطاع في الملفات المدنية، وإشراف مشترك عربي-فلسطيني على الأمن. وقد يبدو هذا كإعادة تنظيم لإدارة غزة، لكن في الحقيقة هو محاولة للسيطرة على القطاع، وفصل المقاومة عن مراكز قوتها، وضمان هيمنة الاحتلال على القرار الأمني والسياسي واي ان الاحتلال ستكون له اليد العليا على القطاع ولكنها اياد عربية فلسطينية يمكنها ان تحقق له ما عجز عنه بقوته العسكرية وهو تحقيق تقدم في ملف التهجير، اذ قد توكل لهذه القوات والادارة القادمة مهمة تشجيع/واجبار الفلسطينيين على النزوح المؤقت تحت غطاء مشاريع الإعمار مع وعود بالعودة، اي دفع الفلسطنين في غزة الي التهجير القسري عبر ادارة وقوة عربية فلسطينية تسوق الامر على انه ضرورة انسانية وخطوة اساسية لتهيئة ظروف ملائمة لاشغال اعادة الاعمار.

فهذه القوة الأمنية المشتركة، التي يفترض أن تضم فلسطينيين ودولاً عربية، تشكل أحد أكثر نقاط الغموض في الخطة التي لم يعلن عنها بعد ولا عن تفاصيلها كتلك المتعلق بمن سيشرف على هذه القوات ؟ او بمدى استقلاليتها عن ضغوط الادارة الأميركية والاحتلال؟ وهل هناك ما يضمن ألا تتحول هذه القوات إلى أداة لضبط السكان ومراقبتهم بدلاً من حمايتهم؟ الغموض المحيط بهذه القوة ان رفع قد تتضح حقيقة الهدف من هذه الخطة، هل هو حماية الفلسطنين وضمات الاستقرار ام فرض مراقبة أمنية وسيطرة كاملة على القطاع.

في انتظار ذلك قد يكون من المهم القول بانه لا يمكن فصل هذه الخطة عن محاولات سابقة لإدارة الصراع الفلسطيني-الصهيوني بدءًا من «صفقة القرن» وصولًا إلى خطوات ترامب السابقة التي سعى من خلالها الى تضليل المقاومة وخداعها . لكن ما يميز الوضع الحالي هو أن الحرب الابادة كشفت بوضوح عمق التواطؤ الأميركي مع الاحتلال، وكل مساعيه لاستغلال الوضع الإنساني لتسويغ السيطرة السياسية. وهذا يجعل أي مبادرة أميركية موضع توجس دائم وبالتالي فستكون محل تدقيق، كما الحرب اثبتت ان مستقبل المنطقة وفلسطين لا يمكن رسمه عبر إقصاء المقاومة أو إنكار الحقوق الفلسطينية.

في الخلاصة، تكشف خطة الـ21 نقطة عن سعي أميركي لإدارة الأزمة الإنسانية والسياسية في غزة وفق مصالح الاحتلال والولايات المتحدة، وليس لحماية الفلسطينيين أو ضمان حقوقهم. فمن دون مشاركة حقيقية للفلسطينيين، ودون ضمانات دولية قوية لمنع التهجير ووئد الدولة الفلسطينية، سيكون مصير هذه الخطة كما سبقاتها، سواء تنكر لها ترامب نفسه ام رفضتها المقاومة التي باتت اليوم ورغم الثمن الباهض لها الافضلية على طاولة التفاوض

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115