السيادة، الانضباط، والمنجزات: أولويات السلطة التنفيذية

حملت كلمات رئيس الجمهورية في اجتماع المجلس الوزاري

الذي تزامن انعقاده مع بداية السنة السياسية الجديدة، إعلانًا عن أولويات المرحلة القادمة، التي أشار إلى أن سياسته وسياسة حكومته بشأنها ستكون حاسمة. وهو الخيار الذي تنتهجه السلطة اليوم عبر تثبيت سرديتها الكبرى، المتضمنة إشارة قوية إلى العمالة واللوبيات والتدخل الأجنبي، في ظل ارتفاع تدريجي في منسوب الاحتجاجات والتوتر الاجتماعي.

تضمن خطاب الرئيس، في جوهره، ثنائية واضحة بين العامل والوطني، بين القديم والجديد، وجعل لها تمثّلًا ذهنيًا وبصريًا قائمًا على منظومة قديمة تحاول بكل الطرق استرداد أنفاسها ومصالحها في السر والعلن، وبين منظومة جديدة تمثلها السلطة اليوم، تسعى إلى تجاوز الأزمات وتحقيق منجزات لصالح التونسيين على قواعد مقولاتها الكبرى، وأهمها حرب التحرير والبناء والتشيد.

وخطة السلطة هنا لحسم هذا الصراع بين القديم والجديد، الخائن والوطني، هي بالأساس تجاوز الأزمات المفتعلة من قبل المنظومة القديمة في قطاعات حيوية تمس حياة المواطن اليومية، من النقل إلى الصحة والتعليم والكهرباء والماء الصالح للشرب، بوضع حد لأذرعها في الإدارة، التي طالها أيضًا نقد الرئيس، الذي اعتبر أن عددًا من المسؤولين فيها «يتصرفون وكأنهم لا يزالون تحت دستور 2014».

هذه الكلمة الرئاسية، التي أعلنت عن استئناف الحياة السياسية، لم تقتصر على تشخيص الأوضاع وتحميل مسؤولية التعثر وعدم الإنجاز إلى الخصوم، سواء من المنظومة القديمة أو أنصارها في الإدارة، بل قدمت ما يمكن اعتباره تصور السلطة لكيفية تجاوز الأزمات والأدوات التي ستحقق بها ذلك، والتي تنطلق من تشديد الرئيس على الانتقال من ردود الفعل في التعامل مع الأزمات إلى الاستباق وإدارة الفعل بما يحول دون الأزمة.

هنا يشدد الرئيس على أن الوقت قد حان لانطلاق مرحلة جديدة، التي يبدو أنها ستكون عنوانًا يختزل أولوياته. وعناصر هذه المرحلة تتضمن أيضًا تطبيق القانون على الجميع، إذ يشدد الرئيس على ضرورة محاسبة كل من أخل بواجبه تجاه المرفق العام، وعلى ضرورة استبدال المسؤولين الذين يفشلون في أداء مهامهم، وغيرها من النقاط التي تبين أن الرئيس يضع في سلم أولوياته، وإن لم يعلن بشكل صريح عن ذلك، مسألة فرض الانضباط المؤسساتي/الإداري كشرط موضوعي لحل الأزمات والتخلص نهائيًا من أذرع المنظومة القديمة في الإدارة.

أولوية فرض الانضباط لا تتعلق فقط بالإدارة، بل الحكومة نفسها معنية بهذه السياسة الجديدة للرئيس، إذ كانت كلمته أمام أعضائها نهاية الأسبوع الفارط صريحة في تقديم إشارة قوية بإمكانية إجراء تحوير وزاري. هذا التحوير قد يكون محدودًا يشمل الوزارات المشرفة على القطاعات التي شهدت أزمات، لكنه لا يعني أنه لن يكون شاملاً أو كليًا، فالرئيس هنا يقتصر على الإشارة إلى أن فشل فريق ما في الدفاع عن قضية لا يعني تغيير القضية بالفريق.

بهذه العناصر التي تضمنها خطاب الرئيس، يمكن فهم أولويات السلطة التنفيذية بأنها خطة لإعادة الانضباط إلى الإدارة، ثم تنزيل سياسات السلطة وخياراتها الكبرى بهدف تقديم منجزات وخدمات أساسية للمواطنين، وذلك في إطار أشمل هو حرب التحرير، التي تعلي شأن السيادة الوطنية واستقلال القرار كإطار سياسي شامل.

غير أن الخطاب، الذي يقدم بوضوح الأولويات من وجهة نظر السلطة، يغفل عن التطرق إلى الأولوية السياسية المتمثلة في عمق الأزمة والخلاف بينها وبين مكونات المشهد السياسي والجمعياتي في تونس، ويرسخ قناعة المكونات السياسية والجمعياتية بأن السلطة ترفض الاعتراف بأن أزمات البلاد تكمن في الانفراد بالقرار وإدارة الملفات الاقتصادية والاجتماعية بمنطق إقصائي، ونزعة السلطة باسم محاربة الفساد والسيادة إلى غلق كل منافذ الحوار السياسي والمجتمعي. خطاب الرئيس في المجلس الوزاري يعزز في أجزاء منه هذه القناعات ويرسخها، خاصة في علاقة بفرض الانضباط الإداري لمواجهة أزمات تستوجب لحلها الحوار، سواء السياسي أو الاجتماعي.

وهذا ما يطرح سؤالًا عن قدرة السلطة، في ظل هذا الوضع، على الالتزام بأولوياتها وتحويلها إلى سياسات تعالج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لتجنب تكرار خطاب ترحيل المسؤولية وتحميلها للآخر

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115