الحق في الدفاع: هل تكون المعركة التي توّحد التونسيين ؟

ساد في البلاد منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية

حالة من الركود، فاقمها الانقسام الحاد بين مكونات المشهد السياسي والحقوقي في البلاد، والذي حال دون أن تنجح مساعي العمل المشترك بين القوى السياسية والاجتماعية، مما شكّل انطباعًا بأنّ البلاد بلا معارك كبرى ولا رهانات يمكنها أن تنهي حالة الركود أو انغماس كل طرف في شأنه وحساباته الخاصة.

لكن الواقع مغاير كليًا لهذا الانطباع وإن كانت له وجاهة. فمن ينظر اليوم للمشهد ويحسن قراءة ما بين سطوره قد يتمكّن من اكتشاف أنّ ثمة معركة كبرى في طور التجلي، قادرة على كسر الجمود ودفع مكونات المشهد الحزبي والسياسي في البلاد خطوات إلى الأمام. وهذه المعركة حقوقية بامتياز، تتعلق بالحق في الدفاع باعتباره عنصرًا أساسيًا من عناصر المحاكمة العادلة، والتي بدورها ليست إلا جزءًا من معركة دولة القانون نفسها.

هذه المعركة، التي لا زالت قيد التبلور والنضج، تحت عنوان مركزي هو الحق في الدفاع، لم تكن وليدة تصريحات عميد المحامين الجديد بوبكر بالثابت الذي شدّد على الحق في الدفاع وجعله أحد عناوين حملته الانتخابية وعنصرًا حاضرًا بقوة في مداخلاته الإعلامية منذ انتخابه. فالعميد ومن خلفه المحامون الذين انتخبوه بأغلبية منذ الدور الأول أعلنوا أنّ أولى مهامهم، والتي ترقى إلى كونها «معركة وطنية»، هي ضمان الحق في الدفاع الذي لا يقبل المساومة.

فالمساس بهذا الحق يُفقد العدالة معناها ويحوّلها إلى أداة للإخضاع. هذه رؤية عميد المحامين وعدد من أعضاء الهيئة، وهي ليست خاصة بهم وحدهم، فهناك أيضًا نقابة الصحفيين التي تعلن عن هذه المعركة ولكن بعبارات مختلفة، من ذلك تحذيرها من خطورة المحاكمات التي تغيب عنها الشفافية أو لا تُحترم فيها الإجراءات، إضافة إلى رفض تجريم العمل الصحفي أو تكييف جرائم النشر على معنى المرسوم 54.

ومثل المنظمتين، هناك عدة منظمات حقوقية ترفع اليوم صوتها عاليًا لتذكّر بأنّ تونس ملتزمة، دستوريًا ودوليًا، بضمان محاكمات عادلة تقوم على استقلال القضاء وتمكين الدفاع من كل صلاحياته. هذه الأصوات، على اختلافها، تعكس حقيقة أنّ جزءًا من النخب والنشطاء يعلنون بأشكال عدة أنّ المعركة اليوم، وهي الحق في الدفاع والمحاكمة العادلة، لا تُخاض من أجل امتيازات فئوية أو رهانات سياسية عابرة، بل من أجل ضمان احترام قواعد اللعبة ذاتها.

فالمحاكمة العادلة ليست مطلبًا فئويًا ولا قضية ظرفية، بل هي حق جماعي لكل مواطن قد يجد نفسه يومًا ما في مواجهة قضائية مع الدولة أو مع خصم قوي. هذا المواطن إن حُرم من حقه في الدفاع وفي المحاكمة العادلة، فإنه سيكون مهددًا بالتعسف وأن يكون ضحية لانحراف يصيب العدالة.

وهذا ما يجعل من معركة ضمان الحق في الدفاع والمحاكمة العادلة معركة وطنية كبرى، يمكنها أن تحشد خلفها التونسيين والتونسيات من مختلف المشارب والانتماءات، لا فقط النخبة. وللمفارقة، فإنّ هذه المعركة تتشكل رغم غياب العمل المنسق أو الجبهة المشتركة. فالمحامون يتحركون دفاعًا عن مهنتهم وعن رمزية استقلالها، والصحفيون يصرّون على أن تبقى محاكمتهم مرتبطة فقط بأخلاقيات المهنة لا بأهواء السلطة، والحقوقيون يرفعون راية المواثيق الدولية. وهو ما يشكل في الظاهر مشهدًا قد تبدو فيه هذه الساحات منفصلة، لكنها في الواقع تتقاطع حول قضية واحدة: حماية جوهر الدولة من الانزلاق إلى منطق الاستثناء الدائم.

فالجامع بين هذه المواقف والمنظمات هو تنبيهها إلى أنّ العدالة ليست إصدار أحكام فحسب، بل منظومة متكاملة تنطلق من استقلال القاضي، وضمان حق الدفاع دون قيود، وحق المجتمع في مراقبة سير العدالة عبر صحافة حرة قادرة على كشف الانتهاكات. ومن دون هذه العناصر مجتمعة، تصبح المحاكمات فاقدة للشرعية، مهما كانت عناوينها أو شعاراتها.

قد يرى جزء من التونسيين أنّ هذا المسار الحقوقي أو النخبوي غير قادر على إطلاق تجميع التونسيين خلف مطلب أو شعار أو معركة كبرى يمكن لنتائجها أن تغيّر واقعهم في ظل مناخ سياسي جامد. لكنّ تاريخ البلاد يثبت أنّ المعارك الكبرى تبدأ دوماً من قضايا تبدو للوهلة الأولى نخبوية، كالحق في الدفاع، الذي على بساطته قد يتحول إلى عنصر استقطاب وحشد وتعبئة.

لا من منطلق أنّ المعركة ضد شخص أو سلطة بعينها، بل لأنها ضد توظيف العدالة للتخويف والترهيب والهيمنة. فالأصل أنّ العدالة ضمانة للحرية لا سالبة لها، وهو ما يجعل من معركة ضمان حق الدفاع معركة على جوهر القضاء ليظل فضاءً للفصل النزيه بين الخصومات، وليس ذراعًا إداريًا يُوظف لحسم الصراعات السياسية.

هذه المعركة غير منظّمة أو مهيكلة بعد، فهي تبدو مبعثرة في بيانات وتصريحات، لكنها تقدم نفسها كعنوان جامع. فهي معركة على مستقبل الدولة، على مصير الحقوق والحريات. وما نحن إزاءه اليوم، وإن كان في ظل غياب التنسيق، هو تشكّل وعي لدى جزء من التونسيين بأنّ الحق في الدفاع ليس ترفًا قانونيًا، بل هو الجدار الأخير الذي يحمي المجتمع من الانزلاق نحو دولة اللاقانون

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115