دورة جديدة انفتحت على فضاءات فرجوية مختلفة من الكنيسة الى المقامات وملعب كرة السلة والموقع الاثري اوذنة، فضاءات عرض جديدة اكتسحها المهرجان في دورة نجحت رغم ضعف الامكانيات المادية والبشرية، دورة استلهمت القوة من سيرة علي بن عياد الذي حمل حجرة الامة الى اعلى قمة كما جاء في كلمة المدير التنيذي للمهرجان معز العاشوري.
نجحت الدورة الثالثة والثلاثين في خلق جدل في المدينة وجلب جمهور متجدد ومسّ شرائح اجتماعية وعمرية متباينة ليؤكدوا ان المسرح حياة وبالمسرح تبعث الحياة في كل الفضاءات فقط متى توفرت الرغبة الحقيقية في العمل وصناعة مشهد ثقافي ينتصر للحق في الثقافة للجميع.
ورشة "الجوقة الشخصية الاسطورية": من اوذنة ترسل رموز لجماليات جديدة
اوتينة تفتح أبوابها للمسرح، ينتشر عبق كل الشخصيات الاسطورية والأشخاص التاريخيين الذين مروا بهذا المكان، اوتينة او اوذنة المرتكزة أعلى الربوة تطل على الحقول الخضراء كانها فينوس آلهة الجمال تتبرع علياء عرشها تتأمل روعة مقاومة زهور الربيع لشمس الصيف الحارقة، اوتينة بعثت من صمتها بطريقة مختلفة عبر المسرح، لأسبوع والموقع الاثري باوذنة كان فضاء ورشة "الجوقة والشخصية الاسطورية" التي اشرف عليها الاستاذين علي اليحياوي وصبري رجب.
في اوذنة كتبت أجساد المتربصين سيرة المكان بطريقة مميزة، استحضروا ارواح من مروا بهذا المكان، استنشقوا عطر التاريخ وجمالية المسارح الرومانية ليبعثوا في اجسادهم طاقتهم المسرحية ويصنعوا موسيقاهم الخاصة عبر ايقاعات القدم على الارض، فالاجساد البشرية ستكون حمالة معاني موسيقية ودلالات فنية عمل عليها علي اليحياوي وصبري رجب طيلة ايام الورشة ضمن فعاليات مهرجان علي بن عياد للمسرح.
هدوء يلف المكان وحدها الريح في الخارج تصنع سيفونية الاكتشاف، اجساد مفترشة الارض تنتظر بداية العرض، من اسطورة "حصان طروادة" كانت انطلاقة المشهدية والرحلة، فالمجموعة عملت على الفضاء واستغلوا كل جزئياته ليصنعوا جوقة متجددة تلتقط حكايات اسطورية وتحولها الى فعل درامي حديث ومن خلال اجساد الممثلين الراقصين سيكتشف الزوار الموقع الاثري باوذنة بعين مختلفة وروح تواقة للحياة والتجديد، فالمسرح كان بمثابة الدليل السياحي العارف بخبايا المكان ونجح الراقصين/الممثلين في استنطاق المكان وتحويله من حجارة صماء الى مجال للحياة.
ورشة "الشخصية الاسطورية والجوقة" تجربة مختلفة في المكان والتعامل مع الفضاء التاريخي فنيا، ورشة احيت المكان وجمعت الجانبين الثقافي والتاريخي ومعهم السياحي، تجربة اكدت ان الفنون قادرة على بعث جمالية جديدة على الفضاءات الاثرية والتاريخية، فاوذنة وغيرها فضاءات تاريخية مهيبة يمكن أن تكون حاضنة مهمة للعروض الفرجوية بكل تنوعاتها الفنية فقط لابد من استراتجيا ثقافية تشبك بين الثقافي والفرجوي بتوفر الارادة يمكن أحداث تغيير جذري في تصورنا للمشهد، الأرضية متوفرة ما ينقص التنسيق بين السياحي والثقافي، مهم ان تنفتح الثقافة على السياحة للعبور من التقليدي الي التفاعلي حسب تعبير مؤطر الورشة الفنان علي اليحياوي.
المسرح المعاصر والاسطورة محور اللقاء الفكري:
حضر الجانب الفكري في المهرجان من خلال ندوة فكرية بعنوان "المسرح المعاصر والاسطورة" واحتضنت المكتبة العمومية حمام الانف فعاليات اللقاء الفكري الثقافي واثث الندوة كل من حمدي الحمايدي وفوزية المزي ومحمد الكشو وادار الجلسة الاستاذ محمد مسعود ادريس، من خلال المداخلات اكد الاساتذة ان الاسطورة كانت دافعا للحركة الدرامية والى خلق ابداعات مسرحية متعددة منذ شكسبير الى اليوم وعلي بن عياد كان شغوفا بتناول المسرح الاغريقي القديم في اعماله المسرحية ومهوس بالبعد الوطني من خلال تناول الاسطورة، وقدم بن عياد شخصيات مسرحية بملامح اسطورية في اعماله لانه متنوع المعارف والتكوين وحاول كثيرا خلق بطله الدرامي.
وقدم الدكتور حمدي الحمايدي مداخلة بعنوان "كيف اصبح مسرحيون تونسيون اسطورة" وتحدث عن ملامح عامة جعلت من بعض المسرحيين اسطورة على غرار الموهبة الاستثنائية والمواصفات جد الخصوصية مثل رجاء بن عمار وجليلة بكار والمنصف السويسي والفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي، الى جانب الموهبة الفذة هناك الشخصية الكاريزماتية والجذابة مثل لمين النهدي وعيسى حراث.
ومن المواصفات ايضا اجتياز اختبارات غير عادية واتباع مسار غير نمطي وتمثله حبيبة مسيكة التي عادت الاستعمار الفرنسي وكذلك شافية رشدي، بالاضافة الى صفة الدفاع عن القضايا الانسانية النبيلة والعادلة وعلي بن عياد احد رموزها لانه كان مناصرا للقضية الفلسطينية وحاول الالتحاق بالمقاومة واكد الحمايدي ان ميثيولوجيا الحياة اليومية صنعت أساطير تونسية.
من جانبها اشارت الدكتورة فوزية المزي في مداخلة بعنوان "التفكير حول المسرح والاسطورة: عود على بدء" الى الاسطورة الحاضرة دوما لتحفيز الصراع، وقدمت قراءات مختلفة للصراعات الكثيرة عبر التاريخ وجميعها اثرت على البعد الدرامي لان المسرح يعالج مصير الانسان ويرسمه، وقالت ان المسرح التونسي ظهر في ظرفيات جد خاصة لذلك لم يستلهم كثيرا من الاساطير فالتجربة المسرحية التونسية انطلقت في ظرف سياسي واقتصادي وثقافي خاص، من جهة مقاومة جبهة الاستعمار الفرنسي ومن جهة اخرى مقاومة الوصم الاجتماعي لممارسي الفن الرابع، ما صنع صدامات ثقافية منها ولد المسرح التونسي بهويته الخاصة.
واكدت فوزية المزي على بروز احداث مستجدة اشتغل عليها المسرح التونسي وكان المسرح الملحمي بديلا عن الاسطورة ومنه فتحت نوافذ على الفكر واعمال العقل.
الاسطورة ملازمة للمسرح والتغييرات التاريخية صنعت اساطير جديدة هكذا تحدث الدكتور محمد الكشو في مداخلته التطبيقة مشيرا ان الاسطورة ساهمت في تشكيل المسرح منذ اليونان، فتطور الشعر ليصبح اسطورة وتطورت الاسطورة فاصبحت مسرحا، والاسطورة لها العديد من الاوجه المؤثرة الان على فعل المسرح.
تطرق الكشو في مداخلته الى العيساوية كمشهدية مسرحية لها بعدها الاسطوري، مشيرا الى رحلة محمد بن عيسى من المغرب الى تونس هروبا من سلطان مكناس دون زاد او ماء وجملته الشهيرة "كلوا ما وجدتم يصبح طيبا" وعليها بنيت فرجة كاملة في حضرة العيساوية ورقصاتهم وأصبحت العيساوية طقس فرجوي منظّم الى حين دخول الاستعمار الفرنسي وظهور "عيساوية البلوط" وهم اشخاص يرتدون أقنعة ويرتجلون وهنا تغيرت المشهدية من نظام محكم الى فوضى ومن منطوق محدد الى ارتجال يشوه الاسطورة الاولى وتحول الفضاء الصارم الى فضاء للارتجال وبذلك تغير تاثير الصورة على المشهدية المسرحية.