وما بين العتمة والضوء تظهر الوحوش" بهذا التصدير لأنطونيو قرامشي اختار المخرج الأسعد الصلعاني تقديم عرضه الجديد "برضاك". في عزف عذب على قيثارة "كوكب الشرق" وتوظيف طريف لأغنيات "أم كلثوم"، يستفز العرض جمهوره للتساؤل وللمساءلة ويحرّضه على التفكير من أجل التغيير! إنّ السلم والحوار وقبول الاختلاف هي قيم للعيش المشترك يدعو إليها عرض "برضاك" كما غنّت "السّت" للحب وللسلام وللجمال !
ضمن باقة انتاجاته الجديدة، قدّم المسرح الوطني التونسي مسرحية "برضاك" للأسعد الصلعاني والتي جاءت في نسختين باللغتين، العربية والفرنسية. و"برضاك" هي مسرحية تقترح فرجة مغايرة في كسر للقوالب المعتادة عن نصّ ودراماتورجيا وإخراج الأسعد الصلعاني، وكوريغرافيا ومساعد المخرج قيس بولعراس، وسينوغرافيا صبري عتروس، وبطولة كل من بهرام علوي وأيمن سليطي وأمان الله توكابري ومنار طنقور ومحمد عثموني وأميرة لوبيري.
عرض في نسختين وبلغتين: العربية والفرنسية
في نسختين وبلغتين، صافحت مسرحية "برضاك" جمهور الفن الرابع في عرضين: الأول جاء بلغة المتنبي والثاني نطق بلغة فولتير. وسواء تحدّث بالعربية أو الفرنسية، فقد انساب نص هذا العرض في شاعرية آسرة وفي رمزية عميقة تُبقي الأبواب مشرعة أمام أسئلة تثير الزوابع والعواصف في ذهن المشاهد / المواطن ... فلا يخرج من قاعة العرض أبدا كما دخل !
إلى فضاء خارج تصنيف الزمان والمكان، يحملنا المخرج الأسعد الصلعاني إلى عالم غير معروف نجهل عنه أكثر مما نعرف ! هو عالم قد نعثر على بعض ملامحه في "ملحمة جلجامش" أو في "رسالة الغفران" أو في "الكوميديا الإلهية"... ولنا أن نطلق العنان الخيال لنتصوّر أنّنا في زمن ما بعد الحياة ! على ركح "برضاك" تظهر أربعة أجساد تلتحف البياض في حالة نوم أو غيبوبة أو غياب عن الوجود، وفجأة تبدأ في الانتفاض بنسق متصاعد وكأن الروح عادت إليها لتتخلص من أثوابها أو من أكفانها وتنصب واقفة ووجوهها مُكفرة وشعورها شعثاء وهي شبه عارية إلا ممّا يستر العورات !
في هذا العالم الغيبي، تلتقي أربع شخصيات: توفيق الملّقب بـ « فيكا » وزهرة (أمه المتوفاة) وعبد الرحمن المسلم وكاميليا، فتدخل في جدال وصدام وهي تواجه بعضها في بوح بذكريات مؤلمة وتفاصيل موجعة وأحداث قاسية حرمتها من السعادة والشعور بالأمان... هي شخصيات كانت تعيش الحياة بلا حياة !
بكثير من الطرافة والمتعة، ينسج المخرج وكاتب النص الأسعد الصلعاني شبكة العلاقات بين شخصياته وينسج خصوصية عوالمها التي تتقاطع عند عتبة البحث عن الحب في معناه الواسع وتختلف في الرؤى الفكرية والثقافية والدينية... كان البطل « فيكا » ضحية لليتم وفقدان الحنان بعد رحيل والدته على إثر ولادته، فورث في جيناته عشقها لأغاني المطربة المصرية أم كلثوم إلى درجة تشبّهه بها حتى في ملبسها ... وهو ما لم يرق لوالده الذي قسى عليه ورمى به في الشارع ! التقى "توفيق" بشخصية "عبد الرحمان المسلم" في السجن فلقنّه التشدد والتطرف، كما تعرّف في الملهى الليلي على "كاميليا" هذه المتحوّلة الجنسية التي تحمل بدورها مظاهر التطرف اليميني... من وحشية الشارع إلى ظلم السجن إلى تفجير ملهى ليلي، لم يعرف البطل "فيكا" مستقرا في حياته ولم يعثر على حد أدنى من السعادة لأنه عجز على أن يكون مستقلا في شخصيته وحرّا في فكره ومتسامحا في قبول الاختلاف !
"أم كلثوم" ورابطة الألفة بين الأبطال والجمهور
بعيدا عن البذخ الركحي وعن ثرثرة السينوغرافيا، اختار المخرج الأسعد الصلعاني أن يأتي ركحه شاغرا من مكوّنات الديكور حتّى لا يشتّت انتباه الجمهور إلى عمق النص ومقصد القول، وحتّى يترك أبواب الخيال مشرعة أمام المشاهد حتى يكون شريكا في صنع الفرجة بعد تذوّق المتعة. أمام خشبة عارية وأجساد شبه عارية وأرواح عارية في صدق بوحها بخفايا النفوس وظنون العقول، كان اللاعبون فوق الركح أقرب ما يكون إلى وجدان الجمهور وتفاعلاته وانفعالاته ... سيما وأنّ وجود الأغنية قد غذّى هذه الرابطة بين الممثلين والمتفرجين وصنع ما بينهم موّدة وألفة.
تمثّل الموسيقى في "برضاك" بحد ذاتها نصا آخر، فحين يضيق الكلام عن استيعاب حرقة الإحساس سواء بالشوق أو بالخيبة أو بالإحباط أو بالأمل تحضر أغنيات أم كلثوم لتسد هذا الفراغ في التعبير عن المشترك الإنساني مهما اختلفت اللغات والجنسيات والهويات... تؤكد هذه الأغاني الخالدة إلى أنّه يمكننا التحاور والتصالح مع الآخرين ومع أنفسنا. وقد سمح المخرج لشخصياته أن تغنى على الركح حتى ولو كان صوتها نشازا لأنه بعيدا عن الكلمات والنوتات، تتأثر إعادة بناء الشخصيات الأربع بذاكرة غير واضحة.
ما بين نور وعتمة، تأرجحت الإضاءة في عرض "برضاك" في توزيع للأدوار وللحوار بين الأبطال الذين يتأرجحون بدورهم بين الحيوانية حدّ التوحش وبين الحنين إلى الإنسانية في عالم يتسع للجميع !
أوبرا وكوريغرافيا وسيرك... ومسرح معاصر
على إيقاع أداء أوبرالي قوي وشجيّ بصوت الفنانة أميرة اللوبيري، ينطلق العرض بأداء موسيقي حيّ يسافر بالجمهور خارج مسارات الزمان والمكان على الركح. وحين يصمت الكلام، ينطق الجسد بما عجزت عنه اللغة في لوحات كوريغرافية بإمضاء الفنان قيس بولعراس. تحضر فنون السيرك لتقترح جماليات معاصرة على ركح مسرحي لا ينشد أن يقوم بعملية تطهير بقدر ما يسعى إلى زعزعة الأفكار الثابتة التي يظن الجمهور أنه يفهمها فقط لأنه اعتاد عليها !
يراهن هذا المشروع الفني على رفع مستوى الوعي بمخاطر التمييز في كل مظاهره وأشكاله، وبخطورة التطرّف في كل أبعاده ... إنّها دعوة إلى نبذ السلوك المتطرف وإلى التخلي عن الأحكام المسبقة التي تنتج ثقافة الكراهية والعنف والطائفية... في المقابل، يؤكد العرض حاجة الإنسانية إلى مبادئ الحوار وقبول الاختلاف واحترام الآخر.
في توظيف لبناء درامي متين ولنص عميق المعنى ورشيق الحرف ولجماليات ركحية معاصرة وغير مألوفة، يزرع عرض "برضاك" في فكر الجمهور بذور الشك والسؤال لإعادة مراجعة كل الأسباب والمسببّات التي تهدد سِلم العيش المشترك.