فماذا ستفعل اذا سنحت لك الفرصة لمغادرة الكهف ورؤية النور لأول مرة؟ طبعا ذلك سيسبب الما لعينيك التي تعودت على الظلام وستندهش لرؤية اناس حقيقيين ، غير الظلال التي ألفتها، وقد تتردد في الخروج لترى الافق الرحب، خوفا من المجهول...
تلك هي امثولة الكهف التي اراد افلاطون عبرها ان يبيّن صعوبة ادراك الحقيقة لمن تعوّدوا ان يعيشوا الوهم، مستسلمين لقدرهم، خانعين ... فقد يبهرهم نور الحقيقة الساطع منذ خروجهم من باب ظلاماتهم ، فيربكهم ، وقد يفضلون العودة إلى سكون كهفهم الذين تعوّدوا عليه ليظلوا بقية حياتهم مستسلمين لأوهامهم ، راضين بقدرهم بدل من تمرين اعينهم ، شيئا فشيئا على ابصار الواقع والتفاعل معه،
كذلك هي مجتمعاتنا ، نعيش في غفلتنا ، مكبلين في سجن معتقداتنا الدينية والايديولوجية والسياسية وبمجرد ان نرى بصيص امل في آخر نفق واقعنا حتى نتردد ثم يدفعنا كسلنا الفكري الذي غذته قرون انحطاط وتخلف و عادات بالية وتفكير كسول وسطحي الى العودة الى سباتنا.
وحتى الديكتاتور الذي يسلبنا انسانيتنا ويغتال أحلامنا على الوسادة ، فإننا لا نرى بشاعة استبداده وساديته المقيتة ، لان الظل الذي نراه على حائط جهلنا والجبن الذي جُبلنا عليه يعكس لنا صورة اخرى ، صورة الأب الحنون الذي يهبنا الحياة، ونصف الاله الذي يغدق علينا يوميا نعمة التنفس ، وحين يدركه الموت ، نشعر باليتم و يدفعنا الحنين الى البحث في قاع مجتمعاتنا عن «اب» اخر نربيه على القسوة والظلم حتى يشتد عوده ، ثم نقف امامه صاغرين، ننتظر اوامره لنطيعها ونزوات جنونه لنغدق عليها عبارات التبرير ونستمع الى خطاباته الرديئة فنجتهد لفك شفراتها ومعانيها المتخيّلة كي نعطيها ابعادها «العميقة».
ذاك هو تاريخنا الذي لازلنا نقدسه بمكر ، ونستحي احيانا من أخذ المسافة الضرورية حتى يمكننا تشريحه ونقده بغاية تجاوزه، قال معاوية ذات يوم مخاطبا الناس: «الارض لله وانا خليفة الله ، فما اخذته لي و ما تركته للناس فالفضل منّي» والتاريخ العربي يعيد نفسه بالرتابة ذاتها وبالثقل ذاته منذ الخلافة والى حد الان، قداسة مضللة وتوظيف لكل المؤسسات : الامنية والعسكرية والدينية وابواق دعاية اعلامية تقودها مرتزقة ، وتنتصب في نفس مكان شعراء المدح ماضيا ، دون ان ترتقي الى ذكاء اتقانهم وبراعة بلاغتهم...
وحتى حين تنتفض الشعوب املا في تغيير واقعها ويظهر في الافق بصيص ضوء للتخلص من الظلم والاستبداد فإن غياب المسؤولية الوطنية والسياسية وحتى الأخلاقية لدى نخب مترددة ومخاتلة ، ترفع شعارات تتماهى مع طموحات شعوبها في الديمقراطية والحرية والعدل ، ثم لا تلبث أن تسقط في اول اختبار صدق لتلك المبادئ، يقودها غبائها أو انتهازيتها إلى فسح المجال أمام استبداد أفظع.
طبعا «لايعمم الا الاغبياء» كما قال شكسبير ، ولكن لابد من البحث في مسؤولية النخب السياسية والمدنية في التراجع الرهيب الذي تعرفه المنطقة العربية ، بعيدا عن شماعة «المؤامرات الخارجية» التي تستعمل دائما للتغطية عن الفشل والعجز. خذ مثلا النخب التونسية: لقد افسدت الأحزاب السياسية الحاكمة منذ الانتفاضة فترة كانت حبلى بالانتظارات والآمال وهيأت الأرضية للشعبوية وهي اليوم تقف عاجزة عن المواجهة و مرتبكة ومنقسمة على ذاتها،
لقد كانت الإجراءات التي اتخذها السيد قيس سعيد في 25 جويلية 2021 وما تبعها من ارتدادات وقرارات امتحانا حقيقيا لمدى تعلّق النخب السياسية والمدنية والحقوقية بشعارات انتفاضة 2011 وتمثلها للعيش المشترك والتمسك بقيم المواطنة واحترام مبادئ حقوق الانسان... ولكن منذ اللحظات الاولى لمشروعه الانفرادي ، بدأت تظهر انشقاقات تنم عن ارتباك شديد ، بين من رأى انه تصحيح مسار أفسده غرور حركة النهضة الاسلامية و استوجب بعض القوة وحتى التعسف على النصوص القانونية وبين من اعتبره انقلابا على الديمقراطية ، ذاك الارتباك هو الذي ساهم في تثبيت سردية يرنو الخطاب الشعبوي الى تعميمها ، اذ لم تعد هناك مسافة نقدية حرّة يمكن من خلالها ان تقيّم الفترة السابقة وانزياحاتها وتراجعاتها وخيباتها ولكن ترفض، في نفس الان، اجراءات تقلب مسار الديمقراطية وتؤسس الى حكم فردي: فالمواطن «مجبر» ان يختار خانة يضع فيها نفسه ، «النحن»، اي رموز «نظافة اليد» و»الاخلاص» وصدى صوت الشعب «النقي» ، أو « هم»، أولئك «المتمسكين بالأحزاب والكيانات الوسيطة والمؤسسات الديمقراطية والمنظمات المدنية، وكل من يريد استحضار «العشرية السوداء»، وان انت اخترت الاولى ، فلابد ان تقف الى جانب القائد المنقذ الذي يختزل الارادة الشعبية.
ولكن أعتقد أن لحمّى الشعبوية التي تعيشها تونس اليوم تحديات عديدة ستكون حتما عائقا امام مزيد انتشارها وسببا في تآكل مصداقية مشروعها الهلامي ، وهي اولا استنزاف خطابها التبسيطي امام التحديات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة و استفاقة جُلّ النخب السياسية والحقوقية (المتأخرة) أمام حقيقة القضم اليومي للحقوق والحريات ، خاصة بعد الدستور الجديد .
في امثولة الكهف المشار اليها اعلاه ، يخرج احد السجناء ويبدأ في ادراك منشأ الظلام في الكهف ويكتشف الوهم الذي كان يعيشه ، وبذلك يبدأ رحلته الى عالم يسوده نور الشمس ، نور الحقيقة ،كذلك هي الشعوب تعيش على أوهامها لسنوات وعقود ، ثم تتعلّم من خيباتها وانطباعاتها وحساباتها الخاطئة لتكتب سردياتها باقتدار وعمق، في قصيدة «انا الشعب، انا الرعاع»
(I am the People , I am the Mob) ، يقول الشاعر الامريكي ، كارل سندبارغ.
«يومَ أتعلّم، أنا الشعب، أن أتذكّر
يومَ أتّعضُ، أنا الشعب، من دروس الأمس
وانسى النسيان،
لن يجرؤ متحدث
على نطق اسمي، أنا «الشعب»
في نبرة من هُزءٍ
أو ظل لا يكاد يُرى،
عندها سيأتي يومي»
وذاك اليوم ات، لا محالة.