أي بعبارة أخرى الى أزمة الأسس الكينزية للسياسات الاقتصادية العامة التي انتهجت في فترة 1970 - 1985 إذ حسم آنذاك النقاش العام حول تشخيص الأزمة وشروط تجاوزها لفائدة المقاربة الليبرالية الجديدة وأطروحاتها النقدية (monétaristes)والتي ترجع أسباب الأزمة الى سياسات الدولة التوسعية في مجال النفقات الاجتماعية والتنموية دون التقيد بعتبة محددة لعجز الميزانية والى تدخلاتها في ضبط نسب الصرف ونسب الفائدة وتأطير هوامش الربح بالنسبة الى أسعارالسلع والخدمات وسن سياسات حمائية فيما يتعلق بالمبادلات التجارية معتبرة أن العوامل الخارجية قد لعبت دورا ثانويا في الأزمة عكس ما ذهب اليه الطرح المقابل الذي يرجع أسباب الازمة أساسا الى ركود اقتصاديات البلدان المصنعة في فترة 1980-1984 وتراجع نمو التجارة العالمية ومحاصرة اقتصاديات البلدان النامية من قبل بلدان المركز وارتفاع قيمة الدولار بين 1982 و1985 ونسب الفائدة العالمية التي ساهمت في تفاقم التداين الخارجي بالنسبة الى بلادنا.
إذن حسم الامر في منتصف الثمانينات لفائدة الخيارات الرأسمالية الليبرالية الجديدة أوما يسمى بالثورة المحافظة التي عرفها العالم تبعا لفترة الانكماش الاقتصادي الناجم عن الصدمة النفطية والمقترنة بالمقولة التاتشيرية الشهيرة «ليس هنالك بديل» لمنطق السوق وتم التوجه الى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للتفاوض بشأن قرضين لتغطية عجز ميزان الدفوعات والانخراط في مسار التفكيك التدريجي للدولة الراعية تحت عنوان «الإصلاح الهيكلي» والذي ترجم في إجراءات تقشفية تتمثل في التحكم في كتلة الأجور في القطاع العام ورفع الدعم بالنسبة الى المواد الاستهلاكية والترفيع في أسعار الخدمات الأساسية (صحة ونقل والماء والكهرباء) وبداية التفويت في المؤسسات العمومية تلتها مراجعات عميقة شملت المنظومة الجبائية بأكملها وتحرير هوامش الربح بالنسبة الى التجارة الداخلية وتحرير المبادلات الخارجية والاستثمار وتفكيك الحماية الجمركية للمنتوجات المحلية (التعريفية وغير التعريفية) وتفكيك الاتفاقية متعددة الألياف (حذف حصة تونس من منتوجات النسيج في السوق الأوروبية) وتبني تعريف القيمة التعاقدية كتعريف للقيمة الديوانية ، كل ذلك في سياق الانخراط في المنظمة العالمية للتجارة واتفاقية الغات وإرساء مناطق للتبادل الحر الثنائية ومتعددة الأطراف لا سيما مع بلدان الاتحاد الأوروبي وبشكل عام في سياق انصهار تونس في الاقتصاد المعولم.
اليوم ونحن نعيش على وقع أزمة محلية شاملة - ليس مأزق المالية العمومية إلا أحد تعبيراتها ونتائجها- يتجدد النقاش حول الخيارات الاستراتيجية (كينزية أو نقدية) ولكن في ظل أزمة اقتصادية عالمية مغايرة تماما للازمات الدورية السابقة التي عرفناها طيلة قرن من الزمن فلا هي شبيهة بالانكماش العظيم La Grande Dépression لفترة 1929 - 1939 ولا بأزمة 1973 المتعلقة بالصدمة النفطية ولا بالأزمات الدورية الأخرى للنظام الرأسمالي العالمي كأزمة 1982 حيث تسبب الإعلان عن عجز المكسيك عن دفع ديونه في اندلاع أزمة بنكية تتعلق بمديونية كل البلدان النامية أو أزمة 1987 المتعلقة بانهيار أسعار الأسهم في بورصة نيويورك نتيجة انفجار فقاعة (bulle) المضاربة أو أزمة 2000 الناتجة عن انهيار فقاعة الأنترنات أو أزمة 2008 المتعلقة بقروض الرهن العقاري عالية المخاطر les subprimes بعد اعلان افلاس بنك Lehman Brothers ، الأزمة الراهنة ليست أزمة نظامية ( crise systémique) عابرة مردها الصدمة أو العدوى يقع امتصاصها بالوسائل التقليدية كسابقاتها بل هي أزمة تمس جوهر المنوال الرأسمالي الليبرالي الجديد المؤسس على معادلة باتت مستحيلة وأصبحت تهدد الانسان والطبيعة بصفة جدية ، معادلة تراهن على النمو الاقتصادي اللامتناهي ضمانا للربح الدائم ولو أدى ذلك الى الاستنزاف شبه الكلي للموارد الطبيعية المتناهية وهلاك أجزاء هامة من البشرية. وليست جائحة كورونا التي تسببت في أكبر انخفاض متزامن في الناتج الداخلي الخام في التاريخ الحديث الا عامل تشديد (un facteur d’aggravation) لازمة المنظومة لا سببها الأصلي.
وما من دليل على ذلك الا المؤشرات الطبيعية الكارثية التي نعاينها في كل مكان : الاحتباس الحراري وذوبان الجبال الجليدية وارتفاع منسوب المياه و تآكل المناطق الساحلية وتكاثر الأعاصير وندرة المياه الصالحة للشرب والري وتلوث التربة والماء والهواء واختفاء الأنواع وتناقص الثروة السمكية وانتشار الحرائق وإزالة الغابات وتكاثر النفايات واستنزاف الثروة المعدنية والموارد الجوفية.
كل هذه الكوارث البيئية من شأنها تعميق الفوارق بين الشعوب والطبقات الاجتماعية والجهات بين أولئك الذين يستطيعون حماية أنفسهم منها لبعض الوقت وأولئك الذين سيكونون أولى ضحاياها.
ان نمط النمو الرأسمالي الليبرالي الجديد بوجهيه العمومي والخاص أي نمط خلق الثروة هو المسؤول عن هذا الوضع ووجب مساءلته قبل مساءلة نمط التنمية الرأسمالية الليبرالية الجديدة أي نمط توزيع الثروة حيث تقوم الرأسمالية المعولمة في بلدان المركز كما في بلدان المحيط على نفس المبدأ : إنتاج المزيد وبنسق دائما متزايد ((productivisme وليذهب الانسان والطبيعة الى الجحيم، ولغاية استهلاك الإنتاج المتزايد كما ونوعا تبتدع وسائل الاشهارالرأسمالية كل أشكال الهرسلة والاغراء والتحيل لحث المستهلك على مزيد الاستهلاك، استهلاك ما لا يحتاج في كثير من الأحيان (consumérisme)حتى كاد يصرخ «أنا أستهلك إذن أنا سعيد». لقد حول رأس المال المالي المعولم كل الأنشطة البشرية والحاجيات الاجتماعية الأساسية (بما في ذلك الصحة) الى سلعة تباع وتشترى وفق قاعدة العرض والطلب ولم تفلت من ذلك القيم التي صارت تقدر بالمعيار السلعي كما ذكرنا.
إن الغاية من تأكيدنا على البعد الكوني للازمة وعلى طابعها النظامي غير المعهود هي السعي الى طرح معالجة مأزق المالية العمومية في إطارها الصحيح من وجهة نظرنا أي معالجة لا تهتم بالتوازنات الكمية العامة المختلة التي تسعى الحكومة الى استعادتها استنادا الى المنطق المحاسبي ومن خلال اللجوء الى برنامج اصلاح هيكلي جديد بتزكية من مدير الأزمات العالمي المسمى صندوق النقد الدولي تحت عنوان التقشف ومراجعة كتلة الأجور وتفكيك منظومة الدعم ومراجعة حوكمة المؤسسات العمومية وغيرها من الاجراءات التي من شأنها في صورة النجاح طبعا أن تترجم في الأخير الى نسب مقبولة فيما يتعلق بعجز الميزانية والمديونية والتضخم والبطالة والنمو وغيرها من المؤشرات ، ما اشبه وصفة اليوم بوصفة البارحة ، قلنا معالجة لا تهتم بالتوازنات الكمية على أهميتها بقدر اهتمامها بالتوازنات النوعية التي تعطي الأولوية للرهان الحقيقي وهو في نظرنا رهان ايتيقي (un enjeu éthique) بالأساس قبل أن يكون رهانا تقنيا محاسبيا باعتبار أنه يعيد التوازنات بين الانسان وراس المال وبين الانسان والطبيعة وبين الطبقات والفئات الاجتماعية وبين الجهات وبين الأجيال وبين قطاعات الإنتاج (الفلاحي والصناعي والخدماتي والرقمي) وبين الانماط الاقتصادية (العمومي والخاص والاجتماعي والتضامني والموازي) ،نحن بصدد تصور منوال تنموي بديل يتجاوز تاريخيا المنوال الرأسمالي الليبرالي المستنزف. يتجاوزه من خلال إعادة صياغة مفهوم الإنتاج وغاياته ونمط الاستهلاك وشروطه وآليات التسويق وقيمها. يتجاوزه أيضا من خلال تصور مغاير لكيفية توزيع ما يقع خلقه من خيرات حتى ينتفع منها كل فرد وكل شريحة اجتماعية وكل رقعة ترابية حسب الجهد المبذول والحاجة الحقيقية المعبرة عنها وفقا لمبدأ التضامن وروح المسؤولية.
أما في خصوص المعالجة المحاسبية المتعلقة بالتوازنات الكمية الكبرى التي لا نهملها حيث تأكد مأزق المالية العمومية بعد تخفيض التصنيف السيادي التونسي من قبل وكالة الترقيم الامريكية «موديز» الى أدنى المستويات نتيجة تزايد الشك في قدرة الحكومة على اتخاذ تدابير من شأنها تلبية حاجيات التمويل المرتفعة للسنوات القليلة القادمة و تحذير الوكالة المذكورة من أنه إذا لم يقع تعبئة تمويلات كبيرة فإن تونس تخاطر بالتخلف عن سداد ديونها ، فبودنا تقديم الملاحظات والمقترحات التالية :
1) اعتمادا على الوثائق شبه الرسمية المسربة المتعلقة بميزانية 2022 تأكد لدينا المنحى التقشفي والمقاربة المحاسبية التي اختارتها الحكومة في علاقة بملفي كتلة الأجور (اقتصاد 1560 م.د بعنوان تجميد الانتدابات والأجور والتقاعد المبكر والخروج التلقائي) ورفع الدعم (اقتصاد 2046 م.د بعنوان المحروقات والكهرباء والغاز ومراقبة مسالك توزيع المواد الأساسية) استجابة لشروط صندوق النقد الدولي للدخول في مفاوضات جدية حول الاصلاحات الهيكلية المطلوبة ، مع الملاحظ أن استهداف محرك الاستهلاك من خلال الحد من القدرة الشرائية للمواطن بإثقال كاهله بأعباء جبائية جديدة (ما لا يقل عن 1880 م.د) هذا المحرك الذي يعتبرالحامل الرئيسي للنمو خلال العشرية الماضية على ضعفه مقارنة بمحركي التصدير والاستثمار من شأنه أن يعيق الانتعاش الاقتصادي برمته.
2) الميزانية أداة لانعاش الاقتصاد زمن الركود وبالتالي وجب التخلص من هاجس العجز (الذي تسعى الحكومة الى تقليصه من 8،2 % حاليا إلى 3،5 % في أفق سنة 2026 ) حتى تستعيد الدولة دورها كدولة راعية تبادر بإحداث أقطاب ترابية تنموية في أكثر من جهة حول مشاريع ذات طاقة تشغيلية كبرى ونسبة اندماج عالية في إطار شراكة واسعة تشمل القطاع العمومي بما في ذلك الجماعات المحلية والقطاع الخاص والقطاع التعاوني والمجتمع المدني كما تساعد على انقاذ المؤسسات الصغرى والمتوسطة من الإفلاس وتعيد الاعتبار للمرفق العمومي من خلال الاستثمار المكثف لغاية توفير الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ونقل بجودة عالية لأوسع فئات الشعب.
3) المقلق فيما يتعلق بالمديونية ليس بلوغها اليوم مستويات قياسية (90 ٪ من الناتج الداخلي الخام حسب تقديرات ميزانية 2021) بقدر توظيفها في دفوعات خدمة الدين والانزلاق تدريجيا الى الاقتراض غير المجديsurendettement improductif)) الموجه لنفقات التصرف في حين يتواصل التهرب الجبائي في القطاع المنظم وخاصة في القطاع الموازي المتهرب كليا من دفع الضرائب والتي تتطلب مواجهته انتداب مئات من أصحاب الشهادات العليا بهدف تسخيرهم للمراقبة الجبائية بعد تكوينهم التكوين الملائم.
4) دعم القدرة الشرائية للأجراء والشرائح الوسطى من خلال المزج بين الترفيع في الأجور والتخفيض في الضريبة على الدخل حفاضا على محرك الاستهلاك ودفعا لجهاز الإنتاج وموازاة لذلك إرساء ضريبة تصاعدية على المساكن الثانوية الفاخرة وضريبة استثنائية على القطاعات المزدهرة ( البنوك والاتصالات والشركات النفطية والمساحات التجارية الكبرى).
5) إعادة توزيع الأدوار بين القطاعات على النحو التالي :
- استعادة الدولة موقعها كقاطرة للعمل التنموي ودورها الراعي للاقتصاد الوطني وللمرفق العمومي بما يضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمواطنات والمواطنين وذلك من خلال المحافظة على القطاعات الاستراتيجية ومزيد الاستثمار فيها والاستثمار في البنى التحتية الأساسية و تأهيل المؤسسات والمنشآت العمومية وتطوير قدرات وأداء الجماعات المحلية.
- قيام الرأسمال الوطني بالدور المناط بعهدته في الاستثمار المجدي والالتزام بمسؤولياته الاجتماعية والبيئية مقابل حمايته من المنافسة الخارجية والاقتصاد الموازي والابتزاز السياسي والفساد الإداري ووضع الإطار التشريعي الملائم لتوفير مناخ الأعمال الملائم للتراكم المحلي.
- تنمية قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني حتى يحتل الموقع الحري به في بلادنا وذلك من خلال التسريع بنشر النصوص التطبيقية من أوامر وقرارات وزارية المتعلقة بإحداث مختلف مؤسساته وآليات تمويله.
- احداث نقلة نوعية فيما يتعلق بالقطاع الموازي باستدراجه في الاقتصاد المنظم وهو يحتاج أن توجه اليه رسالة قوية كتغيير كل الأوراق النقدية مع اشتراط فتح حساب بنكي لإيداعها واستبدالها بالأوراق الجديدة ودفع خطية جزافية لعدم تبرير مصادر الاموال مع اعتماد عنصر المفاجئة كما تم ذلك في الهند بنجاح أما المسائل اللوجستية وتكلفة العملية وتأثيرها على بعض الفئات الاجتماعية (خاصة في المناطق الريفية) فتعد ثانوية مقارنة بعائداتها المالية الضخمة المنتظرة.
6) ضبط سياسات قطاعية جديدة ترتقي بأداء القطاع الفلاحي لا سيما الأراضي الدولية وتنمي القدرة التنافسية والتشغيلية للنسيج الصناعي والخدماتي و القطاع الرقمي والصناعات الإستخراجية التقليدية والاستثمار المكثف قي الطاقات المتجددة.
___
هذا المقال هو صيغة معدلة لنص مداخلتي خلال الدورة الثانية للندوة السنوية حول المالية العمومية تحت عنوان»المالية العمومية في إطار الوضع العام التحديات والآفاق» التي نظمها ائتلاف صمود المواطني يوم الأربعاء 22 ديسمبر 2021