هو من أخصّ خصائص الجامعي لا من جهة ما هو عارف فقط ولكن كذلك من جهة ما هو يفكّر في ما يعرف؛ لا من جهة ما هو باحث مكتشف مخترع فقط، ولكن خاصة من جهة ما هو معتبرٌ لما يَخترع، متماسف عنه التماسفَ النقدي الخلاق؛ لا من جهة ما هو فاعل فقط بل من جهة ما هو مستفهِم كلَّ يوم عن معنى ما يفعل. الجامعة، ولا سيما في صيغتها التّعددية التي باتت تفرض علينا اليوم أن نتحدّث عن الجامعات أكثر مما نتحدّث عن الجامعة كمفهوم موحِّد، مسؤولةٌ عن استصلاح فضاء تتفكَّر فيه نفسها من دون أن يمرَّ ذلك بمساءلة السياسي بوصفه صاحب القرار التسييري الذي يخصها.
إنّ مقومات هذا «اليوم» الذي تحاسب الجامعة نفسها في أفقه هو، من جهةٍ، يومُ السياق، بل يومية السياق المرافق لها. ولكن ضغط السياق - الذي لا يمكن أن ينكره أحد - لا ينبغي أن يحجب عنا جوانب من طبيعة الجامعة تظل محدِّدة لعملها رغم تطورات السياق، ورغم اهتزازاته، ضمانا لتواصلها كجامعة، وحتى لا تتحول إلى مجرد ورشة أو حضيرة عمل تتلقى أوامر عملها من جهة خارجة عنها.
1- تحولات الجامعة وضغوط السّياق:
- معطيات السياق الجديد: لا يمكن تفصيل هذه المعطيات ولذلك سيكون علينا أن نبوّبها. ولعل أهم معطي طرأ عليها هو معطى الارتباط الثقيل بين وظيفتها كمؤسسة للتدريس والبحث والتجديد وما باتت تدعى إليه من مطلب ربط تكوينها بتشغيل خريجيها. إن هذا المطلب ليس صادرا فقط عن السوق التي باتت تحدّد الملامح وتتدخّل في تفاصيل التكوين المطلوب كشرط لمكافأة ذلك التكوين بالتشغيل. لقد وصفنا هذا الارتباط بأنه ارتباط ثقيل لأنه يُدخل ضربا من الضّيم ومن التضييق على حرية أصلية فيها تتمثل ماهية الجامعة. فمن أهم نتائج الاستجابة إلى هذا المطلب تفتيت التكوين الجامعي وتقسيمه إلى وحدات يتمُّ تصورها بحسب غاياتها المهنية، أعني بحسب مقتضيات «المُخرجات» المنتظرة منها والتي باتت تمليها سوق
التشغيل، لا بحسب مقتضيات الوجاهة المعرفية والعلمية للتكوين (la pertinence scientifique de la formation): لقد أصبح التّكوين يركّز على التطبيقات، ويخرج أصنافا من الأعوان يحذقون تطبيقاتهم من دون أن يعرفوا أسسها ولا أبعادها ولا نسبيتها. لقد أوكلت مجمعات التشغيل الكبرى وشركات التصنيع والاستغلال مهمة التفكير في الأسس والغايات والانتظارات الذّوقية للمجتمع إلى مخابر خاصّة بها، وباتت احتياجاتها محصورة في أعوان تنفيذ لا يسألون عما وراء تنفيذهم ولا عن معناه. لذلك تفتتت المعارف تفتتا أولا تمثل في قطع الحذق التقني والعملي عن أسسه المعرفية وحتى الحياتية «الفلسفية»، وتفتتا ثانيا صار تمثل في جزيرية المعارف وخاصة في الظن الآثم بأن كل معرفة تستطيع أن تكتفي بنفسها.
إنني لا أتحدث هنا عن مسألة التخصص. ولكني أريد التنبيه على أن المتخصص ليس باحثا اقتصر تكوينه على تخصص ما، وإنما هو متعلم مرّ بمختلف درجات الارتفاع العلمي وعاين في كل مرحلة من مراحلها تواشج المعارف وترابطها حتى انتهى إلى قمّة من قممها ليعمّقها. لم يعد الخلل متعلّقا بالمخرجات، أعني بخريجي الجامعة الذين باتت مؤهلاتهم كأسَلات (pointes) الإبر، وإنما بالمدرسين أنفسهم، بل في كثير من الأحيان بالباحثين ذواتهم. إن هذا الخلل الذي أصفه هنا بكثير من الاختصار وعلى نحو لا شك أنه لا يستوفي الصورة ولا استتباعاتها، ليس خللا اختياريا، بل هو بات معطى من معطيات التكوين في قسم كبير من جامعات العالم، حتى باتت هذه الجامعات لا تخجل من أن تسمي التكوين الذي تقدمه «عروض تكوين»، ومن أن تقدم ضمن مذكرات شرح الأسباب المبررة لفتح هذا التكوين أو ذلك أنه إنما يستجيب لعروض تشغيل.
سأطرح هنا سؤالي الأول: إن ما تفترضه الجامعة (Université-Universitas–University - Universität) هو بحسب مفهومها وماهيتها وحدة المعرفة. لا يمكننا مثلما كان لاحظ ذلك جورج غوسدورف منذ 1964 أن نتحدث عن جامعة إلا وهي وحدة جملة مؤسسات : «ليست الجامعة»، على ما يقول، «مجرّد مدرسة عليا، مهما علا مستوى الدراسة فيها، بل هي ظاهرة تَساتُل (phénomène de convergence)، إنها مدرسة كونية». وسؤالي هو هنا تحديدا. فكل عاقل يعرف جيدا أن هذه الكونية التي تحدد جوهر الجامعة لا تحصل من مجرد ترصيف البنايات والتخصصات جنبا إلى جنب؛ هي لا تحصل من مجرد «تعدد التخصصات». فهل تشعر الجامعة التونسية اليوم أنها تحقق ماهيتها بهذا النمط المتصامم من المؤسسات ومن مرتادي المؤسّسات ومن هياكل البحث فيها؟ أعرف جيدا أن أول ما يتصدى لسؤالي هذا هو أن هذه البنية التي تقوم عليها جامعاتنا هي بنية مشتركة بين كثير من جامعات العالم. وهذا هو تحديدا ما يجعلني أسأل: أليس من شأن الجامعة التونسية أن تستنبط أنموذجا تلتقي فيه الملامح ولا تتباعد؟ إن ما أقوله صادر عن تجربة فعلية. فتسمية أستاذ باحث في البيولوجيا في صلب مؤسسة في الإنسانيات سوف يصطدم بأعتى المعارضات، هذا إن لم يكن ذلك سببا في كسر المسار العلمي لذلك الباحث أو في تعطيله على الأقل إن هو تعنّت في التحاقه بمؤسسة ليست في اختصاصه الأصلي.
لقد أدى هذا الوضع القائم فقط على جملة من الأحكام المسبقة إلى اختلاق مسارات تكوين في جامعاتنا أقل ما يمكن أن يقال في شأنها إنها مضحكة، حتى لو أريد لها أن تكون مسارات محدودة بمدة زمنية لا تتجاوزها. أيهما أوفق للغرض: أن نكون مجازا أو حامل شهادة مرحلة ثالثة في علم الاجتماع نكلفه من بعد ذلك بالتنفيذ أو بالإشراف على عمليات سبر آراء، أو على تنفيذ استبيانات اجتماعية أو على قيادة حوارات مع نماذج اجتماعية في نطاق بحث تفهمي في علم الاجتماع، أو أن نكوّن أعوانا لا ثقافة لهم خارج التقنية المحدودة التي يتطلبها «إذن مهمّة».
الجامعة فضاء تكوين للنخب. ويبدو لي في هذا السياق أن معنى النخبة يرتبط دائما بشكل أو بآخر ببعد المستقبل. النخبة هي دائما من أجل المستقبل. ولذلك لا بد أن يرتبط تكوينهم باستراتيجية وطنية للمستقبل. فهل لجامعاتنا تصور عن المستقبل؟ سأكون أكثر وضوحا: هل يترك لها طوفان التسيير اليومي الذي تغرق فيه مسحة للتفكير استشرافيا في المستقبل ؟ سأكون أكثر أكثر وضوحا : هل لجامعاتنا هياكل بحث مستقلة تحدد غرض تفكيرها وبحثها على أنه رسم تشكلات المستقبل، أو المستقبلات الممكنة ؟ إنني أعني بكل وضوح أن هذه الاستراتيجية غائبة. هي غائبة في مستوى تحديد مضامين التكوين، وهي غائبة لأن رسم صورة أو ملمح لتونس في المستقبل المتوسط والبعيد أمر غير متاح بل لا أجد أنه يمثل موضوع تفكير أصلا: مثل هذه الإستراتيجية التي تقتضي تحديدا لمستقبل المهن، ولمستقبل المعارف ولتطور البنية الاجتماعية ليست في الوقت الحاضر من أولويات التفكير السياسي ولا من أولويات هندسات المستقبل التي تبدو للأسف مقتصرة على رسم أهداف لا تتجاوز في كل الحالات الأمد المنظور. إننا نخطئ دائما عندما نحصر معنى النخبة في جودة التكوين دون ربط هذه
الجودة بطبيعة المهام وبطبيعة التحديات التي ستدعى لرفعها. ثمة في بلادنا نوع من قصور الخيال ومن عطالة الاستشراف ما يجعل النخب غير ذات مستقبل. فنحن لا نقدر حتى على استرجاع نخبنا التي نرسل بها إلى الخارج لتلقي التكوين الأرفع في جامعات أوروبا وأمريكا، لأننا لم نعدّ لهم شيئا : سأكون أكثر وضوحا : نحن لم ندرج هذه البعثات ضمن أي رؤية مستقبلية ولم نستشرف لها أو بها أي أفق. ولذلك فهي نخب ضائعة، لست متأكدا حتى من أن مؤسساتنا تتوفر على قواعد بيانات ترصد أفراد هذه النخب وتتابع مساراتهم المهنية وتطورهم المعرفي ... أما عن النخب في مجال الإنسانيات فهذه باتت محصورة ضمن مفهوم بائس لا يرتفع بأحلامها وطموحاتها إلى أكثر من ضمان الشغل والترقي العادي فيه. ولذلك فليس لهذه النخب أي أثر في الحياة الفكرية العامة ولا أي حضور في الإشكاليات الحضارية والتنموية المطروحة على البلاد : إن أزمات المدرسة التي جعلت هذه الأخيرة تترامى بين الإصلاح والإصلاح إنما ترجع إلى عدم قدرة هذه النخب على تشخيص مصير المدرسة في أفق انتظارات المجتمع : ثمة عمل إنصات يتجاوز سطحية الاستجابة : صحيح أن المجتمع يعبر
عن حاجاته وانتظاراته، ولكن الاستجابة لها هي عملية تأويلية معقدة تَسمع ضمن صرخات المجتمع وأزماته العنيفة ما لا يُسمع في جلبتها : أين نخب علماء الاجتماع الذين كوناهم ليجلوا لنا التوجهات الصامتة لمجتمعنا، والتي تمثل نبراس الاستشراف الحقيقي للتحولات الاجتماعية ؟ أين علماء النفس الذين كوناهم ليجلوا لنا لا فقط مكونات الشخصية التونسية، ولكن خاصة التشكلات الجديدة لهذه الشخصية بما يمكّن من توجيه الاستهلاك، وتقدير حاجيات الإنتاج، والتحكم في خلق الحاجات؟ لا أخفيكم أني عندما أقرأ ما يكتب في هذا المجال مما يتصل بالشخصية التونسية أو بتحولاتها أشفق على نفسي لأن بعض ما أقرأ مما شأنه أن ينير سبيلي هو أقرب إلى الشعوذة منه إلى الدّراسة العلمية.
إذا كان تكوين النّخب في بلادنا يشكو من مشكل النّجاعة، فلأنه قبل كلّ شيء يشكو من قلّة الأفق. إننا كمن يسير في الظلام. والغائب عنا هو خاصة صورة الإنسان الذي نحب ونطمح إلى أن نكون.
يتبع
• السؤال الثاني: كيف «نجحت» الجامعات التونسية في معجزة تحويل الإنسانيات إلى تكوين زائد؟