وكان ماكرون يعني أساسًا الجمعيّات والنّوادي والمكتبات المنتشرة في العديد من الأحياء «الحسّاسة» والّتي اعتمدتها جلّ التّيّارات الإخوانيّة والسّلفيّة المحلّيّة للتّغلغل في الأذهان، خاصّةً أذهان الشّباب ذوي الأصول المغاربيّة (وإن كان مقترف هذه الجريمة شابًّا شيشانيّ الأصل). ثمّ أكّد وزير الدّاخليّة الفرنسيّ ذلك مشيرا بالإسم إلى بعض الجمعيّات المرتبطة سرًّا أو علنًا بالشّبكة الإخوانيّة العالميّة، كالتّجمّع المناهض للإسلاموفوبيا (CCIF)، بركة سيتي (Barakacity)، أو تجمّع الشّيخ ياسين (الّذي تمّ حلّه بقرار مجلس وزاريّ مؤخّرًا).
وفي إطار هبّة التّضامن والتّكريم للأستاذ الضّحيّة، قامت العديد من وسائل الإعلام الفرنسيّة بإعادة نشر الرّسم السّاخر (المقتطف من صحيفة شارلي هيبدو) الّذي ذُبح الأستاذ إثر اعتماده لتدريس مبدأ حرّيّة التّعبير. وهنا يجب التّذكير بأنّ سامويل باتي أعلن عن نيّته عرض الكاريكاتور مسبّقا، بل ثبت لاحقًا أنّه سمح للتّلاميذ المحرَجين بمغادرة القسم إن لم يرق لهم هذا الرّسم قبل عرضه.
إثر إعلان ماكرون وتفاعل الإعلام الفرنسي، شهدت المساحات الإفتراضيّة العربيّة حملةً شعواء (يقول بعض الملاحظين أنّ بيادق الحلف القطري التّركي تقف وراءها) لـ»نصرة الرّسول» وللإصطفاف ضدّ فرنسا «المناوئة لدين الإسلام» و»المحرّضة على المسلمين». ففي تونس مثلاً، رأينا البعض ينشر قائمة كبرى الماركات التّجاريّة الفرنسيّة ويحثّ على مقاطعتها تارةً، وبعض نوّاب إحدى الكتل البرلمانيّة التّكفيريّة يكيلون السّباب للرّئيس الفرنسي وينعتونه بأبشع النّعوت الحيوانيّة طورًا. وأزبد وأرعد أحدهم مبرّرًا فعل الذّبح بمنطق «من زرع حصد»، بل راجت منذ يومين بعض الفيديوهات لمواطنين بمنطقة الزّهروني قاموا بحرق العلم الفرنسي ودوسّه بأقدامهم من شدّة الغيرة. فهل من مبرّر لهكذا احتقان وتشنّج حول هذه القضيّة؟
أوّلاً وقبل كلّ شيء، قد تجدر بنا العودة إلى النّظام الفرنسي وتعريفه لحرّيّة التّعبير. ففي إطار النّظام اللاّئكي، وباعتبار مبدإ حرّيّة الضّمير، لا يُعتبر ازدراء الأديان جنحةً أو جريمةً في القانون الفرنسي، بل يُعتبر شكلاً من أشكال حرّيّة التّعبير بكلّ بساطة. بعبارة أخرى، لا تعتبر الدّولة الفرنسيّة نفسها حاميةً للدّيانات والمذاهب والمقدّسات، بل تعتبر حرّية الإنسان في السّخرية من الدّين جائزةً، إذ السّخرية من الدّين لا تعني السّخرية من معتنقي هذا الدّين في التّصوّر اللاّئكي. ولئن كان معظم الفرنسيّين لا يفضّلون الإعتداء على مقدّسات المتديّنين حسب أغلب أسبار الآراء، فإنّهم يظلّون متمسّكين بهذا الحقّ الأساسي والإستثنائي، وذلك لأنّ جلّ البلدان الأروبّيّة فضّلت النّظام العلمانيّ القائم على حرّيّة التّديّن مع حفظ المقدّسات.
ثانيًا، يلاحظ المتمحّص أنّ جلّ المنخرطين في هذه الحملة يسعون جاهدين إلى إثبات تركيز الإعلام الفرنسي وصحيفة شارلي هيبدو خاصّةً على إهانة الدّين الإسلامي وسعيها لنشر الإسلاموفوبيا وكره الجالية المسلمة. والحال أنّ مجرّد بحث طفيف على الأنترنات يثبت عكس ذلك. فالعديد من أغطية هذه الجريدة تعلّقت بالدّيانتين المسيحيّة واليهوديّة، بل ذهبت بعضها إلى تجسيد الرّسول عيسى في مواقف جنسيّة صريحة، دون أن ينجرّ عنها إرهاب أو قتل أو ذبح، فهل يقدّس المسلمون رسولهم أكثر من المسيحيّين مثلاً؟
ثالثًا، لنحاول وضع إعلان ماكرون في إطاره التّاريخي. إنّ مشكل الإسلام السّياسي وتغلغله في بعض المنشآت ليس بالحديث في فرنسا، فمنذ حوالي عشرين سنة دقّت عديد الأطراف ناقوس الخطر، منها المنتمي للمجتمع السّياسي (يمينًا ويسارًا) ومنها المنتمي للمجتمع المدني. بل تمّ سنة 2004 نشر تقرير بتكليف وزاريّ (يُدعى تقرير أوبان) أشار بإطناب إلى النّزعة الإسلامويّة الزّاحفة في المدارس الفرنسيّة، ومن بين ما أبرزه ما يندى له الجبين وما قد لا يُسمح به حتّى في مجتمعاتنا المسلمة. فينصّ التّقرير ممّا ينصّ عن تلاميذ يعارضون تدريس النّظريّة الدّاروينيّة أو يرفضون دروس بيولوجيا الأعضاء التّناسليّة، بتعلّة أنّها تخالف تعاليم القرآن. ويمنع أولياء العديد من التّلميذات المسلمات بناتهم من المشاركة في حصص الرّياضة بتعلّة الإختلاط. ويمتنع بعض التّلاميذ عن الزّيارات المدرسيّة للمعالم التّاريخيّة المسيحيّة ويطالبون بعدم التّفوّه بكلمة «خنزير» وكأنّها في حدّ ذاتها ضرب من الكفر. وهذا فقط غيض من فيض النّوادر الّتي يسردها التّقرير.
رابعًا، وفي محاولة للرّبط مع سياقنا المحلّي، أليست تونس (كعديد البلدان الأخرى) تكابد آثار استفحال الخطاب المتطرّف وانتشاره بين الشّباب؟ ألم نعش على وقع العمليّات الإرهابيّة منذ حوالي عقد بسبب التّهاون والتّسامح المفرط مع بعض الأطراف الّتي عملت على التّأجيج والتّأليب وإعلان النّفير والحثّ على الجهاد؟ ألم ندفع ثمن عمليّتي سوسة وباردو باهضًا ممّا جعل السّياحة التّونسيّة في أسوء حالتها لمدّة سنوات؟ ألم نطرح، أيّام المجلس التّأسيسي، مسألة تناغم أطروحات الإسلام السّياسي مع مبدأ الدّولة المدنيّة؟ أمازلنا في طور الخلط بين محاربة الإسلام ومحاربة الإسلام السّياسي؟
خاتمةً، لا يمكن غضّ الطّرف اليوم عن صعود اليمين المتطرّف العنصري في فرنسا، وهو ما تجسّد في طعن مواطنتين جزائريّتي الأصل منذ يومين مثلاً لارتدائهما الحجاب. ولكنّ الحملة الممنهجة الّتي اندلعت إثر إعلان ماكرون الحرب على الإسلام السّياسي لا تُعتبر بريئة، فهي تقوم على إدغام خادع وماكر بين الإسلام كديانة من جهة، والإسلام السّياسي كإيديولوجيا ومشروع من جهة أخرى. والمشكل كلّ المشكل أنّ أوّلهما قد يكون متناغمًا ومنسجمًا مع النّظام اللاّئكي، وثانيهما متضارب، بل متنافر معه، وحتّى مع مبادئ الدّولة المدنيّة هنا في تونس. فإيّانا والإنسياق وراء ردود الفعل الآليّة الهوويّة الّتي قد تخدم المعسكر الإخواني من حيث لا نشاء.