«تاريخ ليبيا ليس سوى صراعات قبلية برائحة النفط» فى استعارة معدّلة مني لقولة كارل ماركس «ان تاريخ أى مجتمع الى حدّ الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقية» .. فرضية تحتاج الى مزيد من التدقيق:
1 - لا يمكن لعاقل يرى ويسمع ويدرك أن يجادل اليوم بأن المشهد الليبي الغارق في غياهب الفوضى تحكمه سوسيولوجيا قبلية عشائرية معقدة ومتنوعة ضاربة فى القدم خصّص لها المؤرخ الاغريقى «هيرودوت» Hérodote قسما خاصا من مصنّفه «تاريخ هيرودوتس» منذ القرن الخامس قبل الميلاد...
2 - قبل دخول «العثمانيين» لم يحظ «الحفصيون والاغالبة والموحدون» إلا بسلطة صورية فيما ظلت القبائل الليبية المنتشرة عرضا وطولا الحاكم الفعلي للبلاد، وحتى العثمانيين أنفسهم لم يتمكنوا من حكم ليبيا لمدة تناهز ثلاثة قرون (1551 - 1912) إلاّ بآلية الأقاليم الثلاثة - «طبرق» فى الشرق، «طرابلس» فى الغرب «وفزان» فى الجنوب - إدراكا منهم بمحورية معطى التنوع القبلي فى إدارة ليبيا من قبل الجيش الانكشاري والأسر العثمانية انذاك، وأيضا الايطاليين والبريطانيين والفرنسيين لم يشذوا كثيرا عن هذه القاعدة الثلاثية الأبعاد.. وبالأمس القريب نجح «القذافى».. في التّحايل على التركيبة القبلية المعقدة للمجتمع الليبي ليحكم البلاد لمدة أربعة عقود كاملة تحت عنوان «الخيمة تنتصر على القصر».. نفس النموذج القبلي وبمساعدة الناتو أسقطه من سدّة الحكم سنة 2011.. واليوم يحول البناء القبلي الموغل في العصبية مرّة أخرى دون انبعاث دولة ليبية قوية وموحدة فاسحا المجال أمام قوى أجنبية ومجاميع إرهابية وأخرى إجرامية تسرح وتمرح فى البلاد ...
3 - عندما أجمع عدد من الباحثين بأن مفهوم «العصبية الخلدوني» قد ترهّل بفعل التقادم، واتجهت أراء عدد من الجامعيين الليبيين إبان إسقاط نظام القذافى بأنّ «ليبيا تنحو باتجاه ديمقراطية تتسم بالتعددية والحرية والمساواة» وان «القبيلة ستسير ضمن التيار العام وستحتفظ بدورها كمظلة اجتماعية فقط وليست سياسية بالمعنى ، الذي يمكنها من لعب دور سياسي يٌغيّر الأمور»، وعندما تم تقديم المعادلة الليبية الجديدة على كونها «تنازع بين قطبين أساسيين، العلمانيين من جهة والإسلاميين من جهة ثانية».. لحظتها كان «العامل القبلي» حرّا طليقا من كل رقابة يفعل بليبيا ما يشاء، يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية بالكامل، وكنا نحن عاجزين عن فهم ما يجري في هذا البلد المترامي الأطراف…
4 - ففي مقاربته التطورية الشهيرة للدولة كان العلامة «ابن خلدون» يعنى بتحديد الدولة ذات المنشأ والبنية القبلية أساسا .. فالدولة في «المقدمة» ليست هي نفس الكيان الاعتباري المستقل الذي تشكل فى أوروبا بداية القرن السادس عشر حول مفهوم Léviathan للفيلسوف الانكليزي «توماس هوبز».. ففي المنظور الخلدوني الدولة اشتقاق لفعل «دال» «يدول» تداولته فيما بينها الأسر الحاكمة وفق مقتضيات منسوب «العصبية» وفي تماه كامل إلى حدّ الانصهار والتوحّد مع شخص الملك والقبيلة التي تمثله.. الوضع في ليبيا غير بعيد عن أفق التحليل الخلدوني ..الخارطة الليبية تنطق قبائليا وعشائريا .. تتشكل من نسيج قبلي متنوع يتحكم باحداثيات البوصلة السياسية، يوجهها في الاتجاهات الأربعة في ظل غياب مزمن للدولة بمفهومها المؤسساتي الحديث.. فحتى القبائل أو العشائر التي نزحت إلى كبريات الحواضر الليبية وتمدرس أبناؤها في أحدث الجامعات الأجنبية ما زالت تحافظ على قدر كبير من عذريتها البدوية..فالقبيلة أولا والقبيلة ثانيا وأخيرا...
5 - مقوّمات الجغرافيا السياسية لليبيا مغرية إلى أبعد الحدود تجعلها في مقدمة الاهتمامات الإقليمية والدولية..موقع متوسطي مميز يتوسط المشرق العربي بالمغرب من جهة ويفصل أوروبا عن إفريقيا من جهة ثانية.. بوّابة المتوسط بحدود بحرية تناهز 1770 كلم والصحراء الكبرى.. يقبع تحت باطن كثبانها الرملية محيط من «الذهب الأسود» دونه لن تكون ليبيا مركز كل هذا الهوس الجيوستراتيجي.. تحكمها على مرّ القرون تحالفات قبلية أسّست لمشروع القبيلة-الدولة عوضا عن الدولة ما بعد القبيلة..تتناحر فيما بينها للسيطرة على مصادر النفط كما كانت بالأمس البعيد على منابع المياه..تٌعدّ المكوّن الأساسي للمجتمع الليبي.. أكبرها عددا قبيلة «ورفلة» التي تضم أكثر من 50 عشيرة وعدد من القبائل تتوزع في مختلف مناطق ليبيا منها قبائل «ترهونة» وقبائل «زناتة» و«المقارحة» و«القذاذفة» و«الطوارق» الخ.. وعلى غرار جميع التشكيلات الاجتماعية القبلية تتركب القبيلة الليبية من مجموعة من العشائر.. خصوصيتها أنها غير متجانسة في الرؤى والمصالح.. تحميها ميليشيات مسلحة غير نظامية متمرّسة على حرب الشوارع.. منها المنضبطة لتوجهات القبيلة الأم ومنها الخارجة عن السيطرة تماما.. تفرّعت عنها جماعات سلفية وجهادية وأخرى متخصصة في الجريمة المنظمة بجميع أنواعها...
6 - يقرّ عدد من المتابعين للشأن الليبي بأن لعبة الشطرنج القبلية في ليبيا تٌدار - بالوكالة منذ سقوط القذافي - غربا فى مدينة «مصراتة» (مسراتة وفق التعبير الخلدوني) لتٌترجم في شكل أختام ومراسيم «بطرابلس» وشرقا وجنوبا فى مدينة «بنغازي».. وأنّ المعارك المستعرة اليوم على تخوم مدينة طرابلس بين قوات «حفتر» النظامية وميلشيات حكومة «السراج» ليست سوى مشهد تراجيدي وقودها نسيج قبلي وعشائري متداخل يحظى من خلاله اللواء المتقاعد «حفتر» على خلاف «السراج» بدعم قبلي واسع وعصبية قوية ممثلة في قبيلة «الفرجان» ذات الامتدادات العشائرية فى الداخل والخارج الليبي...
7 - فان كانت راهنية «المقدّمة» في فك شفرة المشهد الليبي قد لا يرقى إليها الشك، فان «العصبية» التي تٌحرّك مختلف القوى لم تعد هي ذاتها ..فالعصبية القبلية الليبية الراهنة مركّبة تعتمد على ثنائية الانتماء الأسرى والولاءات الخارجية وما على دول الجوار – تونس والجزائر بالخصوص – إلاّ أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية العصبية ذات الطابع المتفسخ عند وضع استراتيجياتها الأمنية المستقبلية…
8 - ان تواصل قبر مشروع الدولة لصالح مزيد من تغوّل الإخطبوط القبلي فى كافة مفاصل المجتمع السياسي الليبي فان قصّة المؤرخ «هيروديت» ستتحقق لا محالة وذلك بقوله «بان رياح جنوبية عاتية قادمة من عمق الصحراء الليبية، جففت جميع الآبار، وبعد التشاور زحفوا كتلة واحدة يشنون الحرب على الرياح الجنوبية وكانت النتيجة ان دفنتهم تلك الرياح تحت رمالها...».
منبر: «السراج» و«حفتر» فى حضرة العلاّمة «ابن خلدون»...
- بقلم المغرب
- 10:22 23/04/2019
- 961 عدد المشاهدات
بقلم : محجوب لطفي بلهادي
باحث متخصص في التفكير الاستراتيجي