دون حرص كثير. كلّ ما جاء في الحوار مع محمّد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعيّة كان قاله الوزير في ما مضى وكانت تداولته الصحف...
لا أدري لماذا يعيد الوزراء الكلام. لا أدري لماذا يحبّ الوزراء الظهور. الكل، أراه، يسعى جاهدا إلى الظهور. هل يخاف الوزراء أن ينساهم الناس؟ في تونس، الوزراء والسياسيون تراهم في كل فضاء يتكلّمون. غالبا، هم لا يقولون شيئا مفيدا. أحيانا كثيرة، يهزّون وينفضون. ليتهم سكتوا... حبّ الظهور عادة تونسيّة انتشرت وذاعت منذ الثورة. مع الثورة، كثرت الغوغاء. علا في كل مكان الصخب...
قرأت الحوار ولمّا انتهيت انطلق فيّ سؤال قائم: هل محمّد الطرابلسي هو وزير في حكومة الشاهد ومهمّته النظر في الشؤون الاجتماعيّة أم هو من اتّحاد الشغل ومهمتّه الدفاع عن الاتّحاد وتبنّي ما يأتيه الطبّوبي وصحبه من سياسة ومن توجّه؟ في الحوار، وجدت ازدواجيّة لدى الرجل بيّنة وفي كلامه خلط في المهامّ جليّ. هذه الازدواجية تقلقني. هذا الخلط يفسد عنديّ الفهم ويشوّش نظري. انا لا أعلم هل محمّد الطرابلسي وزير أم نقابيّ...
لكلّ مقام مقال ولكلّ متكلّم مرجع. فما هو مقام الطرابلسي وأين يكمن مرجعه؟ صحيح، في تونس اليوم، هناك ضبابيّة عامّة، مشتركة. هناك خلط كثير وانتهازيّة. ها هم النوّاب كالأحزاب كالوزراء كالأفراد في اضطراب، يتقلّبون في المواقف. يتنقلون من كتلة الى كتلة، من حزب إلى خصمه... انّه زمن اللفّ والمناورة. الكلّ اليوم يتقلّب، يتحالف، يتخالف، ينضوي تحت جناح هذا، يحتمي بمن سطع نجمه... تونس اليوم سوق ودلّال. بيع وشراء. انتهازية...
من حقّ السيد محمّد الطرابلسي أن يكون في أيّ تنظيم شاء وأن يدافع عن رأي من شاء وأن يغيّر ولاءه كما شاء ولمن شاء. لكنّي أعجب من جلوسه فوق كرسيين مختلفين، لا يلتقيان. أسأل كيف يمكن الانتماء في الآن نفسه إلى منظومتين لا يجمعهما قاسم مشترك. بينهما اختلاف دائم في التوجّه، بل قل، بينهما صراع وتصادم؟ هذا عندي عجب. لعلّه زمن الإنسان اللولب...
* * *
أعود الى الحوار وما تضمّنه... بعد شكر اتّحاد الشغل والتنويه بما يأتيه أهله من منهج وكيف أنّ قراره للإضرابين العامّيّن هو «قرار حكيم» (هكذا)، خاصّة في ما كان حدّد من زمن وكيف أنّ المنظّمة «تدرك جيّدا صعوبة الظرف الحالي ودقّته وضرورة تجنّب أي قرار من شأنه أن يزيد في تعقيد المشكل وهذا أمر للاتحاد يحسب»... بعد الشكر هذا، ماذا جاء في الحوار من مضمون؟ في الحوار الصحفيّ، هناك ثلاث نقاط أساسية. أوّلا: المفاوضات حول الزيادات في الأجور في القطاع العامّ. ثانيّا: التفويت في القطاع العام. ثالثا: إنقاذ الصناديق الاجتماعيّة.
كيف الزيادة في الأجور ونحن في افلاس، نقترض؟
ماذا قال الوزير حول الأجور؟ حسب الوزير، رغم التهديد بإضرابين عامّين، الأوّل في القطاع العام والثاني في الوظيفة العموميّة، «من الممكن جدّا» أن تحصل قبل يوم 24 أكتوبر (موعد الإضراب الأوّل) مفاوضات وسوف يحصل بين الطرفين اتفاق في الزيادة في الأجور...
رأيي الشخصيّ. لو كنت في الحكومة وتجاه التهديد بالإضراب العام، لن أقبل التفاوض أبدا. كيف تقبل الحكومة بالتفاوض تحت التهديد بإضرابين عامّين في قطاعين أساسيين؟ كيف سيكون التفاوض تحت التهديد والوعيد؟ غريب أمر الحاكم.
الكل يعلم أن وضع الحكومة هشّ وفيها اليوم انشقاقات وتشتّت. هذا ما قاله مؤخّرا عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع لمّا ذكر «ان قتل الجنديين سببه ما نرى لدى السياسيين من تجاذبات» ما تحياه البلاد من تمزّق... الحكومة هذه ومن سبقها من الحكومات الأخرى تشكو جميعا الوهن وعدم التمكّن. منذ الثورة، لم نر حكومة تنهض. قادرة. تحدّد الطريق. تقرّر. منذ الثورة، لم نر في تونس غير الارتجال والخوف والتجاذب. الكلّ يداور، يناور، يتخفّى، يتآمر. لا أحد يحكم ولا هو يفعل. لا أحد يريد أخذ القرار. لا أحد يرضى المواجهة. الكلّ يبتغي الوفاق والتوافق. الكلّ يتلوّى. ينافق. يكذب...
كيف الزيادة في الأجور في القطاع العام وقد عشّش في القطاع العام مئات الألاف من العاملين وأشباه العاملين؟ نحو 700 ألف نسمة يشتغلون اليوم في الوظيف العمومي والكلّ يعلم ما لهؤلاء من إنتاج هزيل ومن ثقل ماليّ. كيف الزيادة في الأجور ونحن نقترض وهذه الخزينة مفلسة؟ لو كان في البلاد حاكم قادر، متمكّن لانحصرت الزيادات فقط لمن هم في دائرة الأجر المضمون واشترطت من القطاع العموميّ تسريح أكثر من مائة ألف عون كل سنة...
لن يدعو وزير الشؤون الاجتماعيّة أبدا الى ما ذكرت من تدابير. كيف يدعو اليها وفي الدعوة معارضة لسياسة الاتّحاد ولما يرى الاتّحاد من منهج؟ يعلم الوزير أن البلاد في وضع عصيب ولكنه يدعو مع الاتحاد إلى الزيادة في الأجور. كيف الزيادة في الأجور والبلاد تغرق يا سيّدي الوزير؟ كان على الوزير أن يدعو الى «الحكمة»، كما قال، والى اتّخاذ ما يلزم من التدابير لإنقاذ ما تبقّى من القطاع العموميّ. كان عليه الدعوة الى ضرورة تسريح العاملين الزائدين وقد أغرقت الشركات بالعاملين...
سؤال آخر يشدّني، خارج الموضوع: لماذا نسميّ في وزارة الشؤون الاجتماعيّة نقابيّا؟ هل هو الاعتقاد أن الوزير النقابيّ سوف يوفّق في الجمع بين الحكومة والنقابة؟ هل نظنّ أنّ الوزير النقابيّ قادر على التوفيق بين خطّين لا يلتقيان؟ هل هذا ممكن؟
القطاع العام وضرورة التفويت
أمّا المحور الثاني فهو في علاقة بالمؤسّسات العموميّة وهل تنوي الحكومة حقّا التفويت فيها. هذا سؤال قائم، في تونس، منذ أوّل الزمن. منذ عشرات السنين ونحن نسأل: هل يجب التفويت في شركات القطاع العموميّ؟ الكلّ يعلم، منذ سنين، ما يحصل في هذه الشركات من خسارات فاحشة. الكلّ على بيّنة مما يجري فيها من عبث ومن اضرابات ومن سوء تدبير. الكلّ يعلم ما فيها من سرقات ومن رداءة. لكن لا أحد قادر، له العزم على التفويت فيها والقضاء على هذا المرض الخبيث...
ما هو رأي الوزير؟ كان جواب الوزير مطابقا تماما لتصريحات قادة الاتّحاد وما وضعوه من «خطّ أحمر» لكلّ خوصصة ولكلّ تفويت. هذا معقول. قوّة الاتّحاد تكمن أولا وأخيرا في الشركات العموميّة. في خوصصتها، اضعاف للقطاع العام واضعاف «للقوّة الأولى في البلاد»... يقول وزير الشؤون الاجتماعيّة نفس قول الاتّحاد: «لا مجال للتفويت في القطاع العام». هو يؤكّد: «نعم للإصلاح، لا للخوصصة»... كذلك، تبقى الخطوط الحمراء في أماكنها ولن يتغيّر شيء...
هل من الممكن حقّا اصلاح الشركات العموميّة؟ لا أعتقد. كم مرّة صبّت الاموال بلا حساب في المؤسسات العموميّة لغاية إصلاحها؟ كم مرّة جاءت البيانات لتعلن اعادة هيكلة تلك المؤسّسة؟ كم من برنامج ومن اتفاقيّة أتت بها السلط لإنقاذ هذه واصلاح الأخرى؟ رغم ما كان من انفاق ومن دراسات ومن جهد، لم يتغيّر حال الشركات العموميّة. كلّ الاصلاحات فشلت. كلّ الأموال ضخّت بلا نفع. في تونس، كلّ عام والشركات العموميّة تغرق وكلّ عام يزداد دعم الخزينة.
كيف الاصلاح ومن يحكم الشركات هذه هي النقابات، أساسا؟ كيف الاصلاح وقد غدت الشركات العموميّة، أو أكثرها، تكايا للقاعدين ولأشباه العاملين؟ كيف الاصلاح والمشرفون عليها بردت أيديهم وسكنتهم انتهازيّة... في ما أعتقد، لا احد يريد الاصلاح وفي الاصلاح مغبّات وقطع للمصالح. لا أحد يريد تحمّل التبعات. لا أحد خاصّة يرضى بالتفريط في ما يناله منها من امتيازات وفضائل. في هذه الشركات ينتدبون الأهل والأصحاب والأقارب وفيها ينالون الرشاوى ويفوزون بالصفقات... أنظروا في كلّ الشركات العموميّة لتتيقّنوا. أنظروا مثلا حال تونس الجوّية وكيف دعّمت مرّات ومرّات وانظروا في ما هي اليوم تنتج.
الصناديق الاجتماعية والافلاس المعلن
أخيرا، تناول الوزير وضع الصناديق الاجتماعيّة وقد تفاقمت مع السنين خساراتها. الصناديق هي اليوم مفلسة. هي اليوم بئر بلا قاع ولا أحد من الأطراف، حكومة واتحادا، يريد النظر في ما أفسده التصرّف وفي ما يجري فيها من عبث.
الصناديق آيلة إلى الافلاس لا محالة ويجب على الدولة وهي وحدها، أساسا، المسؤولة أن توجد ما يلزم من الحلول حتى لو أغضبت الحلول أهل الاتّحاد والعاملين في صلبها والمنخرطين جميعا. الكلّ يجب أن يتحمّل التبعات وسدّ ما كان من عجوزات بغيضة. يجب وقف النزيف وضمان ديمومة الصناديق. وهذا دور الدولة، لا غير...
مثل هذه القرارات الحازمة، المؤلمة لن تستطيع اتخاذها حكومة ضعيفة، مرتعشة اليد، تشقّها الاختلافات طولا وعرضا. الدولة اليوم في عجز عنيف وهذا الاتّحاد «أكبر قوّة في البلاد» يأتي ما شاء ويكرّس ما أراد من السبل وهذه الأحزاب وأهل السياسة في صراع لا ينتهي لكسب الفضائل ولنيل الكراسي... الكلّ في تونس اليوم، حكومة وأحزابا وجماعات وأفرادا لا يهمّه ما يجري في البلاد من سوء ومن عبث. في تونس اليوم، لا أحد يرى. لا أحد يسمع. لا أحد يحكم. سفينة بلا ربّان. تحملها الرياح حيث تشاء. الكلّ همّه حماية نفسه ودوام رزقه. الكلّ غايته البقاء قائما للغد المجهول.. وفي الغد شأن آخر.