قهوة الأحد: لماذا تنتج الثورات الفكر المحافظ ؟

قد يبدو السؤال غريبا ومفاجئا بعض الشيء. فالثورات السياسية والانتفاضات الاجتماعية

لا تقتصر على تغيير النظام الحكم وتثوير النظام الاجتماعي والاقتصادي بل تسمح كذلك في ظل هامش الحرية الذي تفتحه في بروز حركة فكرية وفنية تمكن المفكرين والفنانين من تقديم أعمال ساهمت سنوات القمع في تهميشها
وقد عرفت العديد من الثورات هذا المدّ الفكري وتطور حركة النشر والتفكير والكتابة لا فقط في القضايا الراهنة والملحة بل كذلك في الآفاق المستقبلية التي تفتحها هذه الثورات والأنظمة السياسية والاقتصادية التي تعمل على إرسائها. والثورات العربية التي انطلقت من بلادنا لم تشكل خروجا عن هذه القاعدة بل حذت حدوها وفسحت مجالا هاما للمفكرين لتقديم آرائهم بعد سنوات من التهميش وسيطرة الرقابة التي منعت وضيقت هامش التعبير وحرية الرأي.

وينخرط الفكر الذي تنتجه الثورات في إطار الحركية الاجتماعية والسياسية التي تمر بها البلدان. فيكون غالبا مساندا لهذه التغييرات وغالبا ما يطرح المفكرون على أنفسهم مسؤولية ومهمة تصور المجتمع الجديد والنظام السياسي المختلف الذي تلتزم الثورات بانجازه .وقد عرفت كل التجارب الثورية في العام الكثير من المثقفين العضويين كما قال المفكر الايطالي انطونيو قرامشي والذين لعبوا دورا كبيرا لا فقط في نقد الأنظمة الاستبدادية التي سبقت الثورة بل كذلك في نقد الأنظمة الاستبدادية لهذه التجارب التاريخية الجديدة .

ويمكن الرجوع إلى التاريخ لنجد الكثير من الأمثلة على هذه العلاقة العضوية بين عملية التفكير والتغيير الاجتماعي فعصر الثورات في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر صاحبه صعود فلاسفة كبار في إطار حركة تنويرية كبيرة ونذكر من بينهم جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau وديدرو ومونتسكيو وCondorcet في فرنسا وايمانوال كانط Emmanuel Kant في ألمانيا وغيرهم من كبار الفلاسفة والمفكرين .وقد انصب جهدهم الفكري على تثمين التغييرات السياسية للثورة التي اجتاحت أوروبا وإعطائها أسسها الفلسفية في الحداثة بما فيها من إعمال للعقل وإطلاق حرية الفرد والتخلص من هيمنة الكنيسة والفكر الديني .

كما نجد نفس العلاقة بين الفكر وعملية التغيير الثوري في روسيا اثر الثورة البلشفية في أكتوبر 1917.ونجد كذلك هذه العلاقة الوطيدة في اللحظة الثورية التي خلقتها جمهورية قايمار او la république de Weimar اثر الحرب العالمية الأولى – عرفت تلك الفترة حركية فنية وفكرية لم تعرف لها مثيلا في السابق مع عدد الأدباء كتوماس مان وهنريش مان ومع عدد كبير من المفكرين كوالتار بن يامين Walter benjamin وماكس هور كماير Max Horkheimer وتيودور ادرنو Théodore Adorno .وسيضع صعود النازية حدّا لهذه الحركية الفكرية والفنية ليفتح الفترة الأكثر مأساوية لا فقط في تاريخ ألمانيا بل في تاريخ الإنسانية .

كما ستعرف ثورات الشباب في فرنسا وفي العالم في نهاية الستينات ظهور عدد كبير من المفكرين الذين سيصاحبون ويدعمون هذه الثورات وتوق الشباب نحو بناء مجتمعات جديدة تقطع مع تسلط المجتمعات الابوية السائدة في تلك الفترة . ومن هؤلاء المفكرين نذكر الان تورين Alain Touraine والذي اصدر كتابا بعنوان «le mouvement de mai» وPaul Ricœur و Edgar Morin في فرنسا والفيلسوف والمفكر الألماني Jurgen habrmas والذي دافع في تلك الفترة عن نظرية l’agir communicationnel والتي أصدرها لاحقا في كتاب والفيلسوف الأمريكي والألماني الأصل هربارت ماركوز الذي سيصير احد ايقونات الثورات الشبابية ليصبح كتابه الهام «l’homme unidimentionnel» أو الإنسان الأحادي الأكثر مبيعا .

إذن تبدو الفترات الثورية من خلال هذه الأمثلة التاريخية فترات حركية كبيرة لا فقط سياسية واجتماعية بل كذلك فكرية وفلسفية . وتكون اغلب الانتاجات الفكرية تدفع في اتجاه هذا المد الاجتماعي والسياسي وبالتالي ذات طابع ثوري.

إذن ما داعي السؤال الذي طرحته في بداية هذا المقال حول ظهور وتطور الفكر المحافظ في زمن الرجات الاجتماعية والثورات السياسية .طرحت هذا التساؤل لسببين : الأول هو ما نعيشه اليوم في بلدان الربيع العربي وظهور عديد الأصوات التي تنادي بوضوح بالعودة إلى الأنظمة السابقة بالرغم من طابع الاستبداد الذي عرفته ومن خنق الحريات .
ولئن كانت هذه الدعوات في البدء تقتصر على المستوى السياسي نظر للإحباط الذي نعيشه نتيجة استفحال العنف والإرهاب في اغلب البلدان العربية وتردي الاقتصاديات في أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة فقد شهدنا ظهور بعض المساهمات الفكرية التي بدأت تتحسر على زوال هذه الأنظمة وتنادي بضرورة العودة إلى أنظمة قوية قادرة على إعادة النظام والأمن .
أما السبب الثاني فهو عودة الحديث في خضم إحياء الذكرى الخمسين لثورات الشباب سنة 1968 في فرنسا وفي عديد البلدان الأخرى كتونس حول هذا الموضوع وظهور وتطور بعض الاتجاهات الفكرية المحافظة في المخاض الثوري وقد أشارت عديد المتابعات في الصحف والمحلات لهذه القضية وأعطى المفكر Serge Audie والذي اصدر منذ سنوات كتابا مهما حول هذا الموضوع بعنوان «la pensée anti-68 Essai sur les origines d’une restauration intellectuelle » عن دار النشر الباريسية la découverte سنة 2018.

إذن هذا الموضوع أو علاقة التيارات الفكرية المحافظة أو في بعض الأحيان الرجعية وتطورها خلال اللحظات الثورية ليس غرييا ويتطلب الكثير من الاهتمام والدراسة وفي رأيي فإن هذه اللحظات والثورات وكما تعطي المجال للمفكرين العضويين لإعطاء المجال وفتح آفاق تاريخية جديدة للحركة الاجتماعية فان هذه القطيعة في المسار التاريخي العادي للمجتمعات تخلق واقعا يتميز بالكثير من الخوف والحذر مما يخفيه المستقبل .ولئن ستعبر التيارات والاتجاهات الفكرية الثورية عن دعمها وانخراطها في هذه المسارات فان التيارات المحافظة ستكون صدى كبيرا للمخاوف والانزعاج الكبير الذي ستحدثه اللحظات الثورية.

وستبدأ رحلة الأنساق والاتجاهات الفكرية المحافظة منذ عهد الثورات في القارة الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر فلئن يشير عديد المؤرخين إلى ظهور تيارات فكرية محافظة وانساق تقليدية تدافع عن الأنظمة القائمة قبل هذا الوقت بكثير فان اغلبهم يجمع أن بدايات هذه التيارات وتشكلها ستنطلق مع الثورة الفرنسية وبصفة خاصة مع الفيلسوف الايرلندي Edmond Burke أو ادموند بارك في كتابه « réflexions sur la révolution en France» الصادر في نوفمبر 1790 والذي شن فيه هجوما عنيفا على الثورة الفرنسية وعلى فلسفة الحداثة والأنوار في أوروبا . وقد أشار في هذا الكتاب انه لا يمكن للمجتمعات الأوروبية أن تضع أنظمة سياسية تعتمد على فكرة العقل المجردة ولا يمكن لهذه الأنظمة أن تعتمد إلا على المؤسسات التقليدية لهذه المجتمعات كالعائلة والكنيسة وأكد أن ديمومة وصلابة النظام السياسي والمؤسسات الحديثة لا تأتي إلا من التقاليد الموروثة والتي تختزل تاريخا طويلا من حكمة الشعوب وحسن تدبيرها .

سيرتكز الفكر المحافظ على نقد فكرة التقدم التي ستصبح الإطار والأساس الفلسفي للحداثة في المجتمعات الأوروبية.وسيلعب chateaubriand دورا هاما في تنمية وتطوير الفكر المحافظ من خلال مجلة « المحافظ « «le conservateur « التي نشرها في بداية القرن التاسع عشر والتي ستجمع مساهمات هذا التيار وستوجه هذه المجلة سهام نقدها لأهم مفكري الحداثة في تلك الفترة مثل condoncet وVictor Hugo وMadame de Staël وسيؤكد اغلب المحافظين على نقد ورفض فكرة التقدم وقدرة الإنسان على الارتقاء بنفسه نحو الأفضل في غياب قوة خارقة وقادرة على تحديد المثل العليا والقيم الأخلاقية التي تحدد قواعد العيش المشترك في المجتمعات الإنسانية .

إذن أهمية البدايات والمفكرين الأوائل تكمن في وضعهم للأسس الفلسفية والفكرية للفكر المحافظ والتي ستتواصل عبر التاريخ إلى يومنا هذا وسيحدد هؤلاء الفلاسفة أسس المعركة بين القدماء والمحدثين أو les anciens et les modernes – فلئن قبل المحافظون فكرة التطور العلمي والتقني التي عاشتها وعرفتها اغلب المجتمعات على مر التاريخ فأنهم تصدوا بقوة كبيرة وبطاقة نقدية عالية لفكرة التقدم ولقدرة الإنسان على تغيير وضعه نحو الأفضل في ظل غياب قوة خارقة وقادرة على ضبط المعايير الأخلاقية .وفي ظل هذا الغياب فان العقل المجرد للإنسان لا يمكنه وضع هذه المعايير وسيقوده للتهلكة والضياع .والتقاليد والسلف الصالح هي وحدها القادرة على حماية الإنسان وانتشاله من الضياع

وستشكل هذه الأفكار النواة الفلسفية للتيارات المحافظة والرجعية على مر التاريخ والعصور – وسنجد جملة هذه الأفكار في العديد من المخاضات الثورية التي ستعرفها المجتمعات البشرية ومن جملة هذه التجارب واللحظات الثورية يمكن أن نقف عند ثورات القرن الماضي وستبدأ الأصوات المحافظة في التعبير عن نفسها منذ الأشهر الأولى لهذه الثورات من خلال كتاب الفيلسوف ريموند ارون Raymond Aron بعنوان «révolution introuvable» أو «الثورة المفقودة « والصادر عن دار Fayard فايار سنة 1968.

وسيأتي بعدها كتاب ريجيس دوبراي Régis Debray رفيق زعماء الثورة الكوبية فيدال كاسترو وتشي قيفارا بعنوان «Modeste contribution aux discours et cérémonies du 10éme anniversaire « والصادر سنة 1978 عن دار ماسبيرو في باريس كما ستصدر عديد المساهمات والكتب الأخرى لفلاسفة كجيل ليبوفتسكي Gilles lipovetsky وجان بيار لوغوف Jean Pierre le Goff الى الكتاب الشهير «la pensée 68» لـ الان رونو Alain Renaud ولوك فرى Luc Feruy وزير التربية السابق في حكومة اليمين الفرنسي تحت عنوان «la pensée 68» أو «فكر 68» عن دار النشر Gallimard في باريس سنة 1985.واعتبر اغلب هؤلاء الكتاب أن هذه اللحظة الثورية في تطور الفرد وانحلال العلاقات والروابط الاجتماعية ودعمت الأنظمة الشمولية والحضارة الاستهلاكية في المجتمعات الغربية .وهذه التطورات هي نتيجة غياب مؤسسات تقليدية قادرة على كبح جماح تمرد الفرد وسطوته نتيجة مسكه لآليات وأدوات التطور العلمي والتقني .

في النهاية نريد الإشارة إلى أن اللحظات الثورية هي مراحل مفصلية في تاريخ الشعوب فالنشوة والفرح والحلم الثوري يصاحبها الخوف والانزعاج مما يخفيه الغد والمستقبل ولئن ينتج الفرح والأمل الأفكار الثورية والداعمة للتحولات الكبرى فان الخوف ينتج الافكار المحافظة وحتى الرجعية والتي تطالب بالرجوع إلى الوراء – لعل الحلم والفاصل بين اللحظتين هي قدرة القوى السياسية والنخب على تحقيق الاحلام والمطالب وبناء المؤسسات المفتوحة والديمقراطية والتي تمكن الناس من إيجاد وإعادة الطمأنينة المفقودة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115