عن مبدإ سيادة الدّول. وهو وإن اكّد في أسلوب وعظي على ضرورة «العودة إلى هذه المسألة والنّقاش الرّصين والصّريح حولها دون تشنّج ودون اعتماد لغة التّخوين» فإنّه انبرى في تصنيف بعض «الوجوه الجامعيّة والشّخصيّات العامّة» التي دافعت عن حزب اللّه بأنّها معروفة «بولائها للنّظام السّابق».
لقد اعتبر صاحب المقال أنّ كلّ المنظّمات والأطراف التي شجبت هذا القرار لا تخدم مبدأ محاربة الارهاب كما أنّها تضرب مبدأ سيادة الدّولة فضلا عن أنّها تتدخّل في شؤون لا تعنيها البتّه باعتبار أنّ السّياسة الخارجيّة من الصّلاحيات الحصريّة لوزارة الخارجيّة. كما أبدى صدمته من موقف عمادة المحامين التي من المفروض منها، وفق تصوّره، أن تدافع على ضرورة احترام القوانين والشّرعيّة الدّوليّة بدل الدّفاع عن حزب ثمّن تصنيفه على أنّه ارهابي واستغرب تأخّر صدوره إلى الآن.
من جهة التّعريف، أوافق صاحب المقال أن سيادة الدّولة واحدة لا تنفصم وغير قابلة للتّعدّد. وهي كذلك سواء تعلّق الأمر بنظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي. وفي هذا المجال لا يحقّ لأيّ طرف، مهما كان، أن يحمل السّلاح ويخلق سلطة موازية لسلطة الدّولة ومنافسة لها. وساعتها يكون من الواجب ادانة حزب اللّه بالإرهاب إن مارس السّياسة بحدّ السّلاح. بيد أن الوضع على غير ما يقدّمه صاحب المقال باعتبار أنّ سيادة لبنان كانت دوما مُنتهكة من قبل اسرائيل منذ تمّ زرعها في المنطقة. وربّما لسنا في حاجة للتّذكير بالغزوات المتتالية التي قامت بها اسرائيل للبنان ما قبل سنة 82 وما بعدها فضلا عن مجازر صبرا وشتيلا وآخرها الحرب التي قادتها سنة 2006 والتي تصدّى لها حزب اللّه وصدّ بها اسرائيل حتى لا تقضي على ما تبقّى من سيادة لبنان. وفي كلمة، فإنّ سيادة لبنان كانت دوما مُنتَهكَة من قبل اسرائيل منذ قيامها وهي دوما مهدّدة باستمرار في ظلّ صمت الجامعة العربيّة ومنظّمة الأمم المتّحدة الممثّل الأبرز للشّرعيّة الدّوليّة. بل أن جنوب لبنان لم يسلم من السّيطرة الاسرائيليّة إلاّ بوجود حزب اللّه.
لا يتعلّق الأمر بالدّفاع عن حزب اللّه ولا تبرير وجوده الذي لا يدين به لأيّ كان الآن. ما يهمّنا هو التّأكيد على أنّ السّيادة وإن كانت مبدأ قانونيّا، كما هو معروف في أدبيّات الفلسفة السّياسيّة، فإنّها لم تُكتسب أبدا على مدى التّاريخ بفضل تشريع قانوني وإنّما كانت تنبثق دوما عن الصّراع. فما هو مدهش حقّا هو الاعتقاد بأنّ الشّرعيّة تُحترم بمجرّد أن تتخذ شكلا قانونيّا.
والمحيّر حقّا هو الطّريقة التي فهم بها صاحب المقال دوافع قرار تصنيف حزب اللّه منظّمة ارهابيّة. فهو قرار اقترحته مجموعة دول الخليج وعلى رأسها السّعوديّة. وقد ورد في حيثيّات هذا القرار أن حزب اللّه ينشر الفوضى والدّمار في الدّول العربيّة. وعليه لم يكن دافع جامعة الدّول العربيّة الدّفاع عن سيادة لبنان ولا إدانة حزب اللّه لحمله السّلاح وهو الأمر الذي فهمه ممثّل لبنان. ولا يخفى على أحد الآن أنّ جامعة الدّول العربيّة لم تكن تعمل منذ تأسيسها على الدّفاع على مبدأ سيادة الدّول العربيّة فعليّا بل انّها كانت اطارا لتسويغ عديد أشكال استرجاع الاستعمار على أنحاء مختلفة. فواقع هذه المنظّمة هو العجز والفشل وهي تمثّل عبئا على الشّعور العام لدى العرب وحجر عثرة أمام انعتاقهم.
وحتّى إن أردنا الدّفاع عن هذا القرار باسم مصالح البلاد، فإنّ ذلك يتناقض مع مبدإ التّدخّل في شؤون الغير. فالأولى أن يكون لبنان هو الذي يطرح هذا القرار ويدافع عنه ضمن أروقة الجامعة العربيّة وهو أمر لم يقم به ولم يكن موافقا عليه لعلمه بتبعاته على مستوى أمنه. والحقيقة أنّ النّظام السّعودي سعى، عبر هذا القرار، إلى حشر الأنظمة العربيّة الأخرى، تحت ذريعة مقاومة الارهاب، ضمن صراعه المذهبي والاقليمي مع ايران وامتداداته الجغراسياسيّة. كما اعتمد النّظام السّعودي نفس مسوّغ مقاومة الارهاب للتّغطية على اعتدائه على سيادة اليمن وهو ما لم تعمل جامعة الدّول العربيّة على ادانته ومنع الاعتداء على الشّرعيّة الدّوليّة. لم نشهد لصاحب المقال موقفا يدين فيه انتهاك سيادة سوريا دفاعا عن مبدإ الشّرعيّة كما نهض للدّفاع عنه في مقاله هذا بقطع النّظر إن كان النّظام السّوري ديمقراطيّا أم لا. كما لم نشهد لنفس المنظّمة العربيّة تحرّكا لمنع انتهاك سيادة سوريا بل أنّها صمتت كلّيا عن التّهديد الذي وجّهه النّظام السّعودي، منذ أشهر، بالاتّفاق مع تركيا بغزو سوريا واسقاط النّظام بعد فشل المعارضة المسلّحة «غير الارهابيّة» في ذلك. والمضحك المبكي أن يبرّر النّظام السّعودي موقفه هذا بدعوى أن النّظام السّوري يفتقد للشّرعيّة لأنّه نظام غير ديمقراطي ولا يحترم حقوق الإنسان على غرار ما هو جار داخل السّعوديّة.
لسنا في حاجة للتّذكير بكلّ أشكال صمت الجامعة العربيّة عن انتهاك الشّرعيّة والقانون الدّوليين ضمن المنطقة العربيّة وهي أشكال قد تدفع إمّا إلى الملل أو اليأس من الحقّ. لكن ما يشدّ الانتباه في هذا المقال هي الرّوح التي تحكم صاحبه والتي تقوم على توجّه شكلاني في تصوّر القانون عامّة والقانون الدّولي على وجه الخصوص: ويعني ذلك الاحترام المطلق للقاعدة القانونيّة بقطع النّظر عن ظروف صياغتها وملابسات تطبيقها. فالجميع يدرك، وأوّلهم صاحب المقال وهو المختصّ في فلسفة الحق والقانون، أنّ ادّعاء الموضوعيّة في تصوّر القانون الدّولي لا يعني ضرورة احترامه وأنّ هذا الاحترام، على ضرورته المطلقة، لا يعني أنّ استعماله نزيه نزاهة الكاهن. فادّعاء الموضوعيّة في تصوّر القانون الدّولي لا يخدم إلاّ المنتصر وليس ضحاياه في الأغلب إلاّ المهزومين. كنّا نتمنّى أن نحيا، برعاية أنظمتنا العربيّة العتيدة، وكانّنا أرواح ملائكيّة نقيّة لا توجد إلاّ لإحترام القانون.
محمد كرّاي العويشاوي (أستاذ فلسفة بالجامعة التونسية)