خيبة أمل
ما قدمته الهيئة في جلستها يفرض بعض الملاحظات والتساؤلات:
ما نلاحظه في البداية هو جهل أعضاء الهيئة بحقائق تاريخ بلادنا وخاصة بكل ما كتبه المؤرخون منذ عقود حول كل الاحداث التي تعرضت لها الهيئة في حصتها المذكورة. فهي لم تات باي جديد يذكر في ما يخص هذه الصفحات من تاريخنا بالرغم من ان أعضاءها المتدخلين لتقديم الضحايا ومنهم رئيسة الهيئة اكدوا على ان ما يقدمونه سيساعد المؤرخين في بحوثهم. والحال وان ما كتبه المؤرخون في هذا المجال يتعرض بطريقة علمية مميزة لكل هذه الاحداث. اريد هنا الاشارة بصفة خاصة الى كل اللقاءات والبحوث التي قامت بها مؤسسة المؤرخ عبد الجليل التميمي وكل الشهادات التي قدمت في فضائه بصفة مستمرة والتي نشرت في كتب عديدة اصدرتها المؤسسة و كذلك في مجلتها التاريخية.
خيبتنا كانت كبيرة لان ما قدمته الهيئة من صور ووثائق لم يات بجديد في ما يخص الاحداث التاريخية التي تم عرضها. فعلى سبيل المثال،لقد كتبت جوليات بسيس المؤرخة التونسية الفرنسية (والتي وافاها الاجل اخيرا) عن تدخل الجيش الفرنسي لقمع المقاومين المعارضين لسياستهم ولسياسة بورقيبة. وهنا نريد ان نلاحظ ان مصادر الارشيف بالمدينة الفرنسية نانت التي اطلعت عليها الهيئة أو اقتنت منها الوثائق المصورة والمكتوبة مثل الفرنسية INA وهي باهظة الثمن هو نفس المصدر الذي يلجأ إليه ومنذ عقود طويلة المؤرخون وغيرهم من المهتمين بتاريخنا الذين استعملوا مثل هذه الوثائق لبحوثهم. فالوثائق المعروضة اذن ليست لها اي طابع استثنائي او حصري.
أما في ما يخص نوع الشهادات التي استمعنا اليها في الحصة المذكورة ومع كل اجلالنا للذين عبروا فيها عن معاناتهم فعي ليست كذلك حصرية فقد قدمت شهادات مثلها في بعض وسائل الاعلام المكتوبة والسمعية البصرية من قبل مناضلين ومناضلات ومن عائلات الضحايا وكانت قوية ومؤثرة.
هناك اشكال آخر طرحته الجلسة المذكورة: أن نتائج عمل هيئة الحقيقة والكرامة في ما يخص كشف حقيقة الانتهاكات عبر المراحل التاريخية محددة في القانون المنظم لها وهي « الفترة الممتدة من الاول من شهر جويلية 1955 الى حين صدور هذا القانون أي 24 ديسمبر 2013 (58 سنة)». فكيف نفهم عدم احترام الهيئة لهذا المبدإ وهي التي تعرضت الى احداث برزت قبل جويلية 1955 وخاصة منها رجوع بورقيبة في جوان من السنة نفسها.
تغييب الحقائق
أما في ما يخص شهادة السيدة طاوس الشرايطي التي أدلت بشهادتها عدة مرات في وسائل الاعلام ولدى الباحثين. وقد نشرت شخصيا شهادتها كاملة ولابنتها ربح وزوجة الشرايطي الثانية (السويسرية) وابنها في مؤلفي: «بورقيبة والمسألة الديمقراطية». وكانت كل هذه الشهادات شاملة ومؤثرة. فالشهادة المصورة التي قدمت لها في جلسة الاستماع لم تكن بأي حال حصرية ولا كاملة. ففي الجزء المتعلق بفترة ما بعد الاستقلال لم تذكر معاناة العائلة جراء ايقاف واعدام لزهر الشرايطي. وقد غيب تماما هذا الحدث والحال وان أرملته السيدة طاوس قد تحدثت عن الضيعة التي افتكت للعائلة والفيلا الموجودة بالزهراء والتي أرادت الدولة بيعها عقابا للعائلة ولكن بدون ذكر السبب. فمن حقنا أن نتساءل هل خضعت الحقيقة التاريخية لسياسة التوافق بين النهضة ورئيس الدولة التي كانت له مسؤوليات هامة في تلك الفترة التاريخية ?
ولكن ما لم يذكر كذلك هو تدخل بورقيبة بصفته الشخصية وذلك بعد احتجاج السيدة طاوس واللقاء به لكي لا يباع المنزل وان تمكن العائلة من اقتنائه بثمن معقول.
وهذا ما جرى فما يلفت النظر هو أن تتحدث السيدة طاوس عن هذا بدون ذكر السبب ا أي اعدام زوجها في اطار ما سمي بـ«المحاولة الانقلابية». ولماذا لم تذكر السيدة شرايّطي أنه بعد الثورة خاصة وقع ارجاع الرفات لبعض عائلات المعدومين ونذكر منها صالح الحشاني وانه وان لم تتسلم العائلة الى حد الان رفات لزهر الشرايطي فقد رد الاعتبار له وذلك بتدشين ساحة تحمل اسمه في مسقط رأسه قفصة بحضور ابنته وكل العائلة. لا نوجه اي لوم للسيدة طاوس التي احترمها. ولكن ما يمكن اعتباره انتقاء للمعلومات قد ضرب عرض الحائط الموضوعية المطلوبة لهذا المسار الانتقالي. وهنا تطرح مسالة خطيرة هي مصداقية الشهادات المقدمة وعدم فرض توجه ما عليها من اجل الوصول الى هدف معين. والاقتصار في اغلب الحالات على اليوسفيين من شانه ان يوظف الشهادات لصالح موقف سياسي واضح وضوح الشمس. والحال وان هناك اطراف اخرى كانت ضحية دولة الاستقلال وقد ذكرت في الوثيقة المصورة التي قدمتها الهيئة ولكن بصفة عرضية وبدون أي شهادة.
فلكل هذه الاسباب يرى بعضهم ان انعدام الموضوعية حوّل الجلسة الى وجهة واضحة وهي تتمثل في محاربة بورقيبة ؟
الهيئة ومسألة قراءة التاريخ
وأخيرا وليس آخرا. هل من دور الهيئة اعطاء دروس للمؤرخين ؟ وهل من مشمولات الهيئة إعادة قراءة التاريخ ؟ أليس هذا مخالفا للقانون الذي بعثها وان كان يسمح لها بتقديم السياق الذي حدثت فيه الانتهاكات؟ فكيف يمكن أن نفسر اذن ما قدمته الهيئة من قراءة لتاريخ كما تراه ؟
يجدر التذكير بان دور الهيئة ينحصر في تقديم الشهادات المتعلقة بالانتهاكات المختلفة والمتعددة بدون حصرها في اتجاه سياسي معين. وعلى المؤرخين الاعتماد عليها ان شعروا بالحاجة لذلك.
ما بقي في أذهاننا من الجلسة هو تعنت الهيئة ومنذ الشروع في تنظيم جلسات الاستماع لخدمة أغراض سياسية محددة. ونعيد القول بأن هذا التوجه خطير على مسار العدالة الانتقالية وكذلك على قراءة
تاريخ بلادنا لأننا لا نريد أن يعيد التاريخ نفسه في ما يخص تشويه التاريخ ومحاربة الخصوم السياسيين وتمجيد أطراف سياسية قد تكون هي كذلك مصدرا لعدة انتهاكات.
فالبلاد في حاجة ملحة الى إعادة بناء يقوم على على قواعد موضوعية بعيدة عن التوظيف السياسي والتجاذبات السياسية.