وبعد ادخال الضروري من التعديلات على مشروع أطروحتها التي ناقشتها منذ بداية عشرينات القرن الجديد، بين يدي واسع القراء أثرها الرصين والطريف في آن، حتى يطلعوا على فصوله الخمسة الغنية بالمعطيات والدلالات والاستنتاجات.
فقدركزت الباحثةفي أول فصول كتابها على محورية الرافدين المحددين لهوية التونسي ونقصدالإسلام والعروبة،وكذاعلى العناصر المحددة لعمقشخصيتهبالاستناد على ما سبق وأن أنجزه المهتمونبتحولات الواقع التونسي زمن الإدارة الاستعمارية،وفي مقدمة أولئك مؤسس دورية إبلا IBLA (مجلة مركز الآباء البيض للآداب العربية الجميلة)أندري ديميرسمين (ت 1993)في عروضه التاريخية، وقراءتهلأشكال إدارة الحكم وأنظمة التواصل عند التونسيين.
أما الفصل الثاني فقد استهدفأدب السلوك، واقفا عند تمسّكالتونسيين بقيمهم التقليدية مثل الكرم،وكذا الاستراتيجيات الموضوعة من قبل الإدارة الاستعمارية لتوظيفذلك السجلالقيميقصدإحكام السيطرة على البلاد وعلى ساكنتها. بينما خُصّص الفصل الثالثلتحليل واقع اللهجة التونسية بالعودة علىنتائجالبحوث الميدانية التي أجراها الثنائي ويليام مارسي (ت 1956) وعبد الرحمان قيقة (ت 1960)، مستهدفة بالأساس لهجة سكان قرية تكرونة البربرية،كما واحة الحامة بقابس، عارضةإلى أيام سكان تلك المواضع،واصفة مختلف أنشطتهم وأشكال طقوسهم واحتفالاتهم.
خصصت فتحية بلحاج الفصل الرابع من كتابهاللتعريفبالعادات والتقاليدبوصفها مرآة لفهم علاقة التونسيبالاحتفال.واتصال ذلك أساسا بالمنشط الفلاحي،وبانقلاب المشاهد الطبيعية بالتوازي مع تبدل الفصول عند جنوب المتوسط.كما شمل احتفال التونسيين بالمناسبات الدينية أيام عاشوراء والمولد، أو/ والعائلية مثل الختان، والزواج، مع الوقوف عند تمسّكهم بالتبرّك بشيوخ الصلاح واعتقادهم في التواصل مع عالمالجن،وتهيبهم من العين الحاسدةوالأرواح الشريرة، فضلاعن عوائدهم الغذائية المتصلةبـخزن المواد الأساسية والحرص على تأمين "العولة"،درئا لشبح العوز والمجاعة،حتى وإن أبدوا كثيرا من الشطط مسرفينبالتظاهر بالبسْط والسِّعة حالتنظيم احتفالاتهم الخاصة.
أُفرد أخر فصول هذا الكتاب للوقوف عند مختلف ملكات التونسيين الحرفية والتقنية والفنية في ضوءالقراءة الاثنوغرافية الفرنسية زمن الإدارة الاستعمارية،بحيث تعلّقت العروض المستجلبة بنظمالشعر الشعبيأساسا،وكذا الشعر الفصيح ثانويا.كما تمّ التعرض إلى هدهدة النساء لولدانهن، واستنباط الاحاجي لتزجية الوقت،والتعريفبالقصص الشعبيوالسِيَر الملحمية،وفقالماأوردته المقالات أو نتائج البحوث الميدانية الصادرة ضمن مجلة معهد الآباء البيض المشار إليها أعلاه. أما بخصوص المقامات والطبوع الموسيقية التونسية، فقد تم التشديد علىحقيقة تأثرهابتقنيات تلك الصناعة الوافدة من المشرق أو من الأندلس، وفقما عرضتلهموسوعة "تاريخ الموسيقى العربية" التي أشرف على تحريرها البارون رودولف ديرلانجي، وهو ما نجمت عنه حالة تجاهل ونسيان خطيرة للمقامات والأوزان المحلية أو التونسية الصرفة،كما اتصلت نفس تلك المحصلةبفنون الرسم المسندي ومختلف صنوف التشكيل المستحدثة.
متون التراث غير المادي المصدرية زمن الاستعمار
اعتمدت عروض فتحية بالحاج على مادة مصدرية مهمّة حوصلت ما بلغته العروض الميدانية المنجزة زمن الحضور الاستعماري تونسيا، من دون أن تغفل أبرز العروض التي أنجزهاعدد من التونسيين على غرار محمد بن عثمان الحشايشي (ت 1912)في "العادات والتقاليد التونسية"، والصادق الرزقي (ت 1939)في "الأغاني التونسية"، وعبد الرحمان قيقة في "أقاصيص بني هلال"، ومحمد المرزوقي (ت 1981) في "مع البدو في حلهم وترحالهم".
بيد أن معوّل الباحثة قد تقصى بالأساسمحصلة المنجز الاثنوغرافي الفرنسي في اسهاماته المتخصّصة، وكذا ما سواها مماخطّه الآباء البيض. لذلك صادفتنا مراجعات كل من"أندري ديمرسمين" حول الشخصية التونسية،و"ألفريد بيل" حول معتقداتهم وتقاليدهم، و"شارل مونشيكور"حول عمرانهم واحتفالاتهم وصلحائهم، و"إيتيانغوتيي" حول تاريخهمو"وليام مارسي" وابنه "جورج"،حول لهجاتهم وألسنتهم المعبرة عن أنشطتهم وأعمالهم اليومية وأفراحهم، و"أرنست غوستاف غوبار"،حول أطباقهم وتطور مائدتهم، و"جونكومنور"، حول ألعابهم وأحاجيهم وحكايتهم الشعبية، و"رودولف درلانجي"، و"قدور بن نترام"، حول طبوعهم وأوزانهم الموسيقية ومغناهم، و"هنري منويارد"، حول أفراحهم ومعتقداتهم وأعيادهم، وجميعها أعمال سُبقت بأبحاث جيّدة أَنجزها مستعربون جابوا دواخل البلاد وبواديها، ونقلواعن أفواه السكان مختلف تعبيراتهم،وما شكل نسغ حياتهم اليومية وتمثّلهم لما بعدها أيضا.بحيث دوّنوا ما جمعوه، حافظين بذلك ذاكرة ثرية تحيل على موروث البلاد وعلىتاريخها وحضارتها في أطوارها المتعاقبة.
بين العربية الفصحى ولغة تخاطب التونسيين
لعل من أطرفما استوقف الباحثةضمن ما استجلبته من معطيات، محصّلة عروض المؤرخ وعالم الآثار "وليام مارسي" (1872 - 1956) بمعية عبد الرحمان قيقة (1889 - 1960) المنصرف لدراسة التقاليد الشعبية في السيرة الهلالية،ضمن كتابهما المرجع الموسوم "بنصوص تكرونة العربية". وهي عروض بتّت بشكل لافت في ثراء اللهجة المحكيّة أو لغة التخاطب المخصوصةبقرية جبلية محصّنة تقع بأرياف الساحل التونسي (بين مدينتي سوسة ونفيضة أولاد سعيد).حتى وإن كان بالوسع فتح تلك المحصلة لما ظهر في بداية القرن الحادي والعشرين على غرار "معجم دارجة نفزاوة" الصادر سنة (2010)،والمعجم التونسي الذي صاغه إبراهيم بن مراد، جامعاضمنه مئات المفردات السائدة في منطقة الجنوب التونسي، عاملا على ردّ الكلمات إلى أصولها من خلال ربط كلّ كلمة بأصولها الفصيحة أو الأجنبية أو الأمازيغية. أو كذلك التوقف عند ما خطّه عبد الجليل الميساويفي معجم الفصحى والعامية في الخطاب الشعبي التونسي...، الصادر سنة 2011الذي جمع مئات العبارات التونسية،قديمها وحديثها، باعتبار مختلف تلك الإسهامات دراسات تأثيلية ساجلت بكثير من الطرافةمن يعدّونلهجة التخاطبالتونسية لغة منقطعة عن العربية الفصحى ومنفصلةً عن تطوّرها. فقد برهن ملفوظ الدارجةفي تعبيراتها المتعددةالدقيقة والمتشعبة، عنقرب لغة التخاطب من الموروث الشعبي المكتنز لتجاربَ التونسيين،وعن نظرتهم إلى الكون والحياة والجسد في آن.
وهو ما يسهل الكشف عنه من خلال التعرف على دلالة المفردات التي تضمنتها الحكاياتوالقصص والآثار الابداعيةفي إثرائها للعروض المكتوبة والمسموعة والمرئية، وكذا خِطابات الساسة، ولغة الإشهار، وجميعهايحيل على تاريخ البلاد، وعلى ما ترسّب لدى سكانها من تمثّلات.والظن عندنا أنالباحثة لم ترغب في تجاوز الاحداثيات الزمنية التي وضعتها لمجال بحثها، لذلك فرط عن تقييمها استبداد الفصيحلاحقا (وخاصة بعد تصفية الاستعمار) بالفضاء اللغوي الرسميعلى حساب اللهجات الشعبية، وكذا الأمر بالنسبة للثقافة الإسلامية على ما قبلها، والتعبيرات الموضوعة في اللغة العربية على ما سواه، والاهتمام بالخطابالوطني على ما دونه من آداب محليّة أو من موروث الأقليات الاثنية واللغوية والمليّة.
وهو عين ما أثاره شكري المبخوت مؤلف كتاب "متحف الأدب" (منشورات مسكيلياني 2023) لما حاول تفسير ما وسمه بـ "هامشية الهامشي"،وذلك من بوابة سيطرة الفصيح على ما دونه، -وتلك واحدة من أعصى التوترات وأعقد القضايا التي واجهت ولا تزال إيديولوجيا "التوْنسة"، باعتبارها أفقا في تحديد ما استعرنا شخصيا وضمن كتاب "أخبار التونسيين" (منشورات مسكيلياني 2019) للتدليل على حقيقة حضوره مصطلحا مخصوصا هو: "الموروث الجيني الثقافي للتونسيين".
فإذا ما تجاوزنا حقيقة التبجيل الذي حضي به المنجز الإبداعي الشعبي في جميع ضروبه الأدبية، وقدرته على التعبير بدقة لا متناهية عن الوجدان الجماعي للتونسيين، وهو ما اعترف به علامة المغرب ومؤلف "المقدمة"، كما اهتم به القابضون على السلطة تباعا منذ أواسط القرن التاسع عشر، ووضع بشأنه النابهون والمتبحّرون كُتبا مفردة (الحشايشي، والرزقي، والمرزوقي)، وخصّه العارفون بالدرس التراثي والأدبي بمباحث مهمة (الخميري، وخريف، وعمايرية) ومن سواهم من المستعربين أو المستشرقين، فإن قطب الرحى بخصوصه يكمن في عدم الحسم في مسألة تحويل الاهتمام بتاريخ الآداب المشفوهة إلى أولوية ثقافية رسمية، والكشف تبعا لذلك عن : "صياغة نماذجه الجمالية والفنية وتحديد أشكاله وأبنيته وشفراته وأنماطه وتحوّلاته"، والتعرّف على: "تقاليده وسننه وعلاقة النصوص المفردة بها تماثلا وتعارضا واحتذاء وابتداعا" حسب ما أقره مؤلف "متحف الأدب" دائما، حتى نهتدي إلى رسم: "شبكة المعايير الفنية... التي تسيِّجُه"، وإدراك العلاقة المخصوصة التي يقيمها "بالحياة اليومية وبطقوس العبور والأفراح والأتراح...وبجميع مناحي الحياة". وهو ما حال-وعلى حد تعبير نفس المؤلِف بجميع ما وضع في اللهجة المشفوهةدون بلوغ مستوى: "الاستقرار النصي"، بحيثبقي نمط انتاجها ضعيفا وامتنعت عن التدريس والتداول بين المتمدرسين والباحثين والنقاد، لتبقى ضمن دائرة الدرس الأنثروبولوجي عامة، والابداعي جزئيّا، الشيء الذي حال دون حصول تنافذ مُخصّب بين النسقين الأدبي والثقافي، ووقف حاجزا دون ارتقاء الابداعات الموضوعة في لغة التخاطب إلى مصاف الآداب المعترف بها، الشيء الذي يعيدنا إلى حُجّة الحسم في هكذا إشكالية، وفقا لتصوّر "رولان بارت"لـمّا ردّ الأدب لـِمَا يُدَرَّسُ دون سواه.
خطاب الحداثة خطاب التقليد
لن ها ينبغي أن يلهينا مثل هذا التقييمالذي كنّا بصدده بخصوص حالة الشدّ القوية بين الفصحى والعامية في انتاج المعارف الفكرية والجمالية عن حضور توتر آخر لا يقل قوة بينتصوّراتباتت في عداد النسيان،نظرا لسرعة نسق التحوّلات والتباس مدلول الحداثة نفسه إلى حدّ صعوبة التعامل معه من وجهة نظر الحفاظ على الثوابت الثقافية للمجتمعات العربية بعد أن خالطها الاستعمار الثقافي الغربي. فإذا ما صحّ اشتقاق مدلول التقليعة أو الموضة عربيا من كلمة mode، تلك التي تحيل على لفظة moderne التي تقابلها كلمة "حديث" في اللغة العربية، فإن التقليعة تتحول عندها إلى مؤشر بليغ يُسعففي التعرّف على تطوّر الذوق والتشوّفإلىالارتقاءبمعيشنا اليومي، من تافه التصوّرات وضئيل الممارسات، إلى تصوّرللحداثة يتساوق مع تعريف "ميشال مافزوليMichel Maffesoli" لمدلولها باعتبارها مغامرة للسير على الأطراف لا تعير كبير أهميةلسجل الضوابط أو المعايير الناظمة للتصرّفات المقبولة اجتماعيا أوأخلاقيا، تلك التي تحميها سلطة القديم وقداسته في آن.لذلك يحسُن التمييز بين "الفرد" من جانب و"الشخص" المنخرط كونيافي الشبكات المتعاظمة للاتصال،بحيث غابت النخبولم تعد تحرّكالكافة سوى الرغبة الجامحة في دخول الأشخاص لا الأفراد،فيعلاقة تماثل سلوكي مع بعضهم البعض، ساعينإلى الالتحام بالغيريات أكثر من الاستقلال بالذات.
لذلك بدا لنا التساؤل حول مدى انخراط الفعل الثقافي والإبداعيفي التعبير عن هذه الانتقالاتوإعادة تملّك مدلول الحداثة وتعليم طريق سالكة باتجاه التدبير الرصين لما تشهده مختلف الشعوب من تطوّرات في رسم مشتركاتها الثقافية، أو الدفاع عمّا لاتزال تعتبر أنه من أخصّ خصوصياتها تاريخا وفكرا وأدبا وفنّا، هو ما حاولت فتحية بلحاج ضمن هذا التمرين الطريف على الحقيقة الوقوف عند سياقته والسير في منعطفاته طوال المرحلة الاستعمارية تونسيا، مُتسائِلةومن منظور تخصّصها كدارسة للعلوم التراثية وباحثة في الأنثروبولوجيا التاريخية عن تشعّباتميراثٍتحول بالتقادم إلى محاولات كونية لفهم الآليات التي تعيد حاضرا صياغة معاني الهجانة بمقاييس كونية./.
وبالجملة فإن هذا الكتاب بحث حقيقي في تجاويف الشخصية التونسية من منظور تاريخي وتراثي واثنولوجي، لذلك لا يعترينا شك في أهمية محصلته لا ضمن إطاره الأكاديمي كتمرين معرفي فحسب، بل وبالنسبة للساحة الثقافية التونسية، التي تُدين بالظّنة وترجم بالغيب جهود بُذلت من أجل فتح حوار رصينبين التقاليد الشعبية الراسخة والبحوث العالمة، ضمن سياق مخصوص اتسم بحاجة الغالب إلى مزيد التعرّف على من رضخ لسلطانه./.